يقول الإمام الشيخ أبو حامد الغزالي: «من لم يحرّكه الربيعُ وأزهاره، والعودُ وأوتاره، فهو فاسدُ المزاج ليس له علاج».
الموسيقى….
هل يمكن العيش بدونها ؟ و هل هي مجرد ترفيه أم هي غذاء الروح ؟ ماذا قالوا فيها وعنها ؟
سنعرض في سطور أبرز ما قاله نخبة من الفلاسفة و المفكّرين حول العالم عن الموسيقى و ماهيتها و أهميتها، من بينهم أفلاطون و شكسبير و جبران خليل جبران و غيرهم.
وعرْضُنا هذا سيكون نظرة عامّة على عظماء الفكر والتاريخ الفلسفي وبعض الآراء الصوفيّة حول هذه الجوهرة العظيمة “الموسيقى”، وكيفيّة النظر والتأوّل فيها، وصولاً لرؤية علّامة العصر الحديث ومُختصِر فلسفات الأدب والتاريخ.. تاج علم وفنّ الأزمان: الشيخ المفكّر مازن الشريف، بما أضاف من قيّمة تفصيليّة دقيقة معمّقة تختصر رؤية هؤلاء العظماء وتُمازجها بعلم لدني ورؤية إلهية منبعهما علم نفس روحاني، شارحاً جواهر الأشياء، مفنّداً روح المعنى والأبعاد، محيطاً بعلم الذات وخصائص الصفات، محكّماً أصول العقائد والشرائع السماويّة، داحضاً اللبس، بإسلوب ميسّر وسهل الفهم، لا يدع مجال للشك والاختلاف، مستمّداً وممدّاً القارئ بنفحات وإيحاءات جاء بها من روح خضرية سماوية صوفية؛ واقعية علمية تحليلية، تجمع الظاهر بالباطن وتميّز الرديء من الجيد، تفصل العلوي عن السفلي، تضع الأطر الذوقية النوعيّة المتنوّعة، بما لا تحلّل المحرّم أو تحرّم المحلٍّل، ما يوصلنا بالنتيجة لمجتمع غير مفصول عن دينه وغير كاره لسنّة نبيّه بعد فهمها وتقريبها علماً، وتذوّقها فنّاً مستساغاً حلالاً وصافياً مشربه زلالاً.
ولنبدأ بشكسبير، وشكسبير هو شاعر وكاتب مسرحي بريطاني معروف، فماذا قال في الموسيقى؟
قال:
إذا خلت نفس إنسان من الموسيقى وانعدم تأثره من اتّحاد الأصوات الرخيمة كتب عليه أن لا يصلح إلّا للمخادعة، ونصب الحبائل للنّاس، والإضرار بهم؛ فتخور عزيمته، وتموت مشاعره، وتظلم عواطفه كالليل الدّامس، ويكون غير أهل لأن يخلد إليه بالثقة.
كذلك قال:
كلما انطلقت موسيقى الربيع… اخضرّت الأرض… وتفتّحت البراعم…. وذابت الثلوج.
و قال:
احترس من هذا الرجل , إنه لا يحبّ الموسيقا
الرجل الذي لا تكمن فيه الموسيقا ولا تحرّكه النغمات الجميلة لا يمكن الوثوق به.
أما أفلاطون فقال قولاً طيّباً ورائعاً اختصر فيه الكثير من الرؤى والمعطيات، ودخلت الموسيقى عنده جانب التربية وتهذيب النفس والأخلاق، بل واُعتبرت الموسيقى عنده قانون أخلاقي ومتخطيّة عتبة ذلك إلى الروح وزرع الجمال من خلالها بكل شيء.
يقول:
من حزن فليستمع للأصوات الطيّبة فإن النفس إذا حزنت خمد منها نورها فإذا سمعت ما يطربها اشتعل منها ما خمد.
–الموسيقى هي قانون أخلاقي. إنه يمنح الروح للكون ، وأجنحة للعقل ، والهروب إلى الخيال ، والسحر والبهجة للحياة وكل شيء.
الموسيقى تعطي روحاً للكون، أجنحةً للعقل، طيراناً للمخيّلة وحياةً لكل شيء.
إن هذا العلم لم تضعه الحكماء للتسلية واللهو، بل للمنافع الذاتيّة، ولذّة الرّوح الرّوحانية وبسط النفس وترويق الدّم، أما من ليس له دراية في ذلك، فيعتقد أنه ما وضع إلا للهو واللعب والترغيب في لذّة شهوات الدنيا والغرور بأمانيها.
جبران خليل جبران الكاتب والأديب العظيم أفرد فصلاً كاملاً للموسيقى، ففي كتابه «الموسيقى» والذي هو أشبه بكتيّب صغير قد ألفه بدايةً باللغة العربية،نستعرض منه بعض الفقرات من هذا الكتاب المليء بالمحبة والعظمة والتذكير بأهمية الموسيقى لبني البشر؛ ومن ذلك:
تسير الموسيقى أمام العساكر إلى الحرب فتجدِّد عزيمة حميّتهم وتقوّيهم على الكفاح، وكالجاذبية تجمع شتاتهم وتؤلِّف منهم صفوفًا لا تتفرَّق. *ما سارت الشّعراء أمام الكتائب إلى ساحات القتال، موطن المنيَّة، لا ولا الخطباء، وما رافقتهم الأقلام والكتب، بل مشتْ أمامهم الموسيقى كقائدٍ عظيم، يبثُّ بأجسامهم الواهنة قوَّةً تفوق الوصف، وحميَّة تنبِّه في قلوبهم حب الانتصار فيغالبون الجوع والعطش وتعب المسير، ويدافعون بكلِّ ما في أجسادهم من القوَّة.
الموسيقى ترافق أرواحنا وتجتاز معنا مراحل الحياة، تشاطرنا الأحزان والأفراح وتساهمنا السّرَّاء والضّرَّاء، وتقوم كالشَّاهد في أيام مسرّتنا وكقريبٍ شفيقٍ في أيام شقائنا.
ينتقي الرّجل شريكة حياته وتتّحد نفسيهما برباط الزواج، متمِّمين وصيَّة كتبتها الحكمة منذ البدء على قلبَيْهما، فيجتمع الأقارب والخلّان ويصدحون بالأناشيد والأهازيج ويقيمون الموسيقى شاهدًا عندما يربط القران عرسَ المحبَّة، فكأني بهما، يوم التَّعريس، صوتٌ رهيبٌ تمازجه الحلاوة، صوتٌ يمجِّد الله في مخلوقاته، صوتٌ ينبِّه الحياة النَّائمة لتسير وتنتشر وتملأ وجه الأرض.
الموسيقى كالمصباح تطرد ظلمة النفس، وتنير القلب فتظهر أعماقه.. والألحان في قضائي هي خيالات المشاعر الحية.
ويا ابنة النفس والمحبّة أيتها الموسيقى يا إناء مرارة الغرام وحلاوته يا خيالات القلب وثمرة الحزن وزهرة الفرح يا رائحة متصاعدة من طاقة زهور المشاعر المضمومة بلسان المحبّين ومذيعة أسرار العاشقين، يا صائغة الدموع من العواطف المكنونة، يا موحية الشعر ومنظمة عقود الأوزان، يا موحية الأفكار مع نتف الكلام، يا مشجّعة الجنود ومطهّرة النفوس، يا بحر الرقّة واللطف.. إلى امواجك نسلّم أنفسنا، وفي أعماقك نستودع قلوبنا.. احملينا إلى ما وراء المادّة وأرينا ما تكنّه عوالم الغيب.
وفي موقع آخر يقول جبران:
إنّ الموسيقى تقود أظعان المسافرين وتخفّف تأثير التّعب وتقصّر مديد الطّرقات، فالعيس لا تسير في البيداء إلّا إذا سمعت صوت الحادي، والقافلة لا تقوم بثقيل الأحمال إلا إذا كانت الأجراس معلّقة برقابها، ولا بدع!! فالعقلاء في أيامنا هذه يربّون الضواري بالألحان ويدجّنونها بالأصوات العذبة.
الموسيقى عند جماعة إخوان الصفا الصوفيّة
أما عند الصوفية فقد تفرّدت الصوفية بين أهل الأدب والأخلاق بعنايتها باللحن والنغم والتجويد للموسيقى.
ولنفهم أكثر حال الصوفية والموسيقى نعرض مقتطفات لحوار جميل نافع وضعه إخوان الصفا يوضح رؤيتهم حول الأنغام الموسيقية، وأثرها الموسيقا في النفس والروح والبدن.
" وللتذكير حركة إخوان الصفا هم جماعة من فلاسفة المسلمين من أهل القرن الثالث الهجري والعاشر الميلادي بالبصرة، اتّفقوا على أن يوحّدوا بين العقائد الإسلامية والحقائق الفلسفية المعروفة في ذلك العهد، فكتبوا في ذلك خمسين مقالة أسموها : تحف إخوان الصفا.
جاء في مقتطفات القصة و الحوار:
حدثوا أن جماعة من الحكماء والفلاسفة اجتمعوا في دعوة ملك من الملوك فأمر أن يكتب كل ما يتكلّمون به من الحكمة، فلما غنّى الموسيقار لحناً مطرباً، قال أحد الحكماء: إن للغناء فضيلة يتعذّر على المنطق إظهارها، ولم يقدر على إخراجها بالعبارة فأخرجتها النفس لحناً موزوناً، فلما سمعتها الطبيعة استلذّتها وفرحت وسرّت بها، فاسمعوا من النفس حديثها ومناجاتها.
وقال آخر: احذروا عند استماع الموسيقا أن تثور بكم شهوات النفس البهيميّة نحو زينة الطبيعة، فتميل بكم عن سنن الهوى وتصدّكم عن مناجاة النفس العليا.
وقال آخر للموسيقار: حرّك النفس نحو قواها الشريفة من الحلم والجود والشجاعة والعدل والكرم والرأفة، ودع الطبيعة لا تحرّك شهواتها البهيميّة.
وقال آخر: الموسيقار إذا كان حاذقًا بصنعته حرّك النفوس نحو الفضائل ونفى عنها الرذائل.
وقال آخر: سمع فليسوف نغمة القينات فقال لتلميذه: امض بنا نحو هذا الموسيقار لعله يفيدنا صورة شريفة، فلما قرب منه سمع لحنًا غير موزون ونغمة غير طيّبة فقال لتلميذه: زعم أهل الكهانة أنّ صوت البوم يدلّ على موت إنسان، فإن كان ما قالوا صدقًا فصوت هذا الموسيقار يدل على موت البوم!
.... .....
الموسيقى عند المفكر الكاتب مازن الشريف
نصل إلى الكاتب والعلّامة الفيلسوف: مازن الشريف لنستبين آرائه، إذ أنه أصل الحكاية وفصل الرواية وكنه المعرفة، والحكم الفصل، فقد اقتبسنا رأيه من روايةٍ له سمّاها: المعلّم والتنّين، ولا عجب فرواياته لا تخلو من الآراء والحِكم، بل والمناهج الفلسفيّة التي تؤسس وتمنهِج لعلم خضري معرفي ربّاني جديد.
يقول واصفاً أحد شخوص أبطاله في الرواية:
المكان كله زهور تتماوج، وفراشات تطير.
والريح حين تسري تعزف موسيقى، ناي، أو عود.
*لم يكن حينها يعرف العود فلم يخترعه الإنسان بعد، أو لم يتذكّره، لكنّه سمع آلات الموسيقى تعزف عليها ريح الجبل الفضّي، وفوقه كانت تأتي أصوات ترانيم تتماوج مع الماء والنّور.
نظر مايسان إلى أعلى وقال له: كل الموسيقى قادمة من هناك، من أعلى، موسيقى الروح التي تعلّم منها البلبل والشحرور، فنّ في فنّ من مبدع كلّ فنّ.
وحين تسمع موسيقى تحرّك روحك وتجعل جلدك يقشعر وقلبك ينتشي وعينك تلمع، فاعلم أنّه من فنّ الرّوح، فنّ الأعالي، لأن الروح تذكره.
حتى الرضيع حين تغنّي له أمّه يبتسم وينام، وحين يسمع صوتاً رديئاً ينتفض، فالموسيقى صوت أنوار القدير حين تلامس العوالم والأرواح الطيّبة.
أما الأصوات الرديئة النشاز، غناءً وعزفاً بما فيها من نفث شياطين بوّابة الظّلام، فهي موت، تقتل كل إحساس راق، وتسعّر الشهوة في كائنات عالم الفناء.
وتلك مأساة الموسيقى ومعضلة الفنّ عندكم، أن يتّخذ غطاء لأطياف الوهم، تسرّب به شرّها وتنشر الرغبة الحمراء. وهذا سيزداد وتيرة في قلب الوقت حتى تقوم النهاية.
لكن تظلّ الموسيقى بريئة ويظلّ الفنّ نقياً كقلب زهرة البلّور.
الموسيقى عند الدكتور الروائي مازن الشريف موجودة بالعالم الآخر، وجاءت منه، وهي سابقة عن عالمنا هذا، تأتي من الأعلى.
وكما رأينا من خلال الوصف الموجز والوافر، الدقيق والعميق للدكتور، نجده أجاب عن أسئلة مطروحة تتعلّق بمنشأ الموسيقى وكيف تتصدّر إلينا من تلك العوالم، وكيف تتجسّد في عالمنا، مشيراً لإمكانية التشويه بمصدرها واللعب بأوتارها وتغيير ذبذباتها، لتغدو نشاذاً موذياً مُحرّفَاً عن أصله، ومسممّاً لفرعه. موضّحاً كيف حصل ذلك في عصرنا، ملمّحاً عن مقصديّة ذلك في إسلوب يخلو من البراءة بمقصدهم، مُرجِعاً الموسيقى إلى أصلها، عالماً بحقيقتها النقيّة، فهي تبقى بجوهرها لترقى بالناي والعود إلى الروح وأصلها في عود الإنسان.. صلبه وروحه، ونسغه وشجرته وفرعه.
وأخيراً... نختم ببعض الأقوال المتنوّعة
في الموسيقى:
باولو كويلو "روائي وقاصّ برازيلي" :
قبل أن نصنع الموسيقى، هي تصنعنا.
صموئيل تايلور كوليردج " شاعر انكليزي وناقد ومشتغل بالفلسفة" :
بدون موسيقى ، ستكون الحياة فارغة بالنسبة لي.
جين أوستن " روائية انكليزية" :
بدون موسيقى يجب أن أتمنى أن أموت.
إدنا سانت فنسنت ميلاي" كاتبة مسرحية وشاعرة أمريكية" :
الموسيقا هي كل شيء بالنسبة لي.
🎶🎶