رواية المعلم والتنين المشهد السادس عشر: مايسان وزهرة البلور

29 ديسمبر، 2022

ليس هنالك ما يمنع تصديق أي شيء، ولا ما يمنع تكذيب أي شيء، والأمر متصل بالحجة والدليل.

كانت هذه كلمات الأمير يحدثه عن قصته، وحين قام بختمة التذكر ونزع ختمة النسيان، تذكر تايبنغ كل شيء، ربما كان عليه أن يحزن، لكن لم يكن هنالك وقت للحزن أو الغضب، بل للفعل السريع، لينقذ عشق قلبه.

نفذ الختمة بسرعة، فانفتحت بوابة مائية، دخلها، فوجد الصحراء تمر من تحت قدمه بلمح البصر، إنها القفزة البعدية، طي للمسافة عبر جيب بين الابعاد.

وجد الجبل أمامه، أراد الصعود فناداه الصوت، اصعد دون ان تصعد، اعكس الختمات.

وبسرعة تحركت أصابعه ليجد الصخور تحمله وترفعه.

لكن فجأة انقضت عليه النسور، آلاف منها.

قم بجزء من الختمة، مثلث وتآلف، ناداه الصوت.

فعل بخفة كبيرة كأن أصابع روحك تحرك أصابع يده، فخرج من الفضاء بجانبه ضوء أحمر فيه ذئب طيفي اتحد بجسده، فتوقفت النسور وحطت حوله.

ركز على التآلف.

وضع راحتيه بتواز ملتصق، كانت تلك تحية أسرته، حينها فقط أدرك جوهر سرها، إنها مركز الطاقة.

بلغ قمة الجبل، تحرك كالهواء وانساب كالماء واستعر كالنار، ثم وقف بثبات التراب في قمة الجبل، لم يتعب جسده بل تعبت روحه من السلاسل التي تقيدها، فقوة روحه أكبر من كل ما تمكن من تجربته ومن كل ما تمظهر عليه.

النسر الفضي، كائن الأساطير القديمة، كأساطير التنانين، لم يتصور أنه بذلك الحجم، كان يمد جناحيه على امتداد الغيم، وكل ريشة تبدو كأنها سفينة كبيرة من سفن مملكة أبيه، أو جبل من جبال أرض الجليد.

لم ينظر ولم يخف، كان يردد أن الحب أقوى من كل شيء، وليس أقوى من الحب إلا خالقه، ولأن هنالك من خلق، فالمخلوقون مهما بلغت أحجامهم وقواهم وغرابة تكوينهم، فهم مخلوقون في النهاية، لهم إمكان وجود ولو بدا للبشر أن ذلك أسطورة ومحال، وعليهم من خالقهم قوة لا تسمح للأقوى أن يفعل للأدنى منه قوة شيئا إلا بإذن وحكمة، ومن هذا المنطلق لم يخف من عظمة النسر الفضي، ولا من غرابة تشكله في هيئة ذئب بشري، ولم يعد يستغرب شيئا من قصته.

الآن بدأت تفهم، قال له الصوت المنبعث في رأسه، شعر بقرب مصدره، نظر أمامه، عيناه في عيني النسر، كان الصوت ينبعث من عيني النسر الى عينيه، وابتسم، لقد بدأ يتذكر شيئا مطويا في ذاكرة روحه، هو والنسر صديقان قديمان، لا يعلم أين ولا يعرف كيف، لكنها صداقة تمتد إلى ما قبل تشكله جنينا في بطن أمه، إلى وجود سابق لوجوده الطيني.

حين يحمل الجسد الروح تأخذ عجزه وحدوده، وحين تحمل الروح الجسد يأخذ سرعتها ونفاذها.

وانت حررت روحك بقوة الحب، لا شيء أقوى من الحب، لأن الذي خلقك، خلقك بحب، ولأنك حين تحب تكون أقرب من روحك، ويكون من تحبه روحك العشقية التي تمنح روحك الذاتية الصبر على أغلال الجسد ونوازع الفناء.

عجيب أمر الروح والجسد، كالظل والجسم، لا يتلامسان رغم أنهما متلازمان، لكن حين يشف الجسم، يتروحن، وحين تتحرر الروح، تتجسم.

على قمة جبل النسر الفضي، في عالم من العوالم المجهولة عند البشر، في بعد من الأبعاد وأفق من الآفاق، فوق كرة السواد التي تشكل سماء العالم الأدنى وما فيها من نجوم وكواكب، تبدو له الآن حبات رمل صغيرة، هنالك حيث المكان غير المكان والزمان غير الزمان، وجد زهرة البلور التي تشفي حبيبته من سم أفاعي المتاهة.

كانت تضيء كأن في بتلاتها ملايين الأقمار، وكانت كبيرة جدا حين نظر إليها بعين روحه كأنها آلاف الأكوان من الكون الذي كان فيه جسده، ولكن الجبل طواها بين حجارته، وكان النسر أعظم من الجبل، وفوق النسر سماء فيها كواكب درية مضيئة ملونة، وأقمار زمرد وماس، وطيور تحلق مع الغيم، ونسور وعقبان ونمور وأفاعي من ماء بلوري يطير بعضها ويمضي بعضها داخل بحر فوق غيم السماء موصول بنور فوقه يتحرك حركة الضوء المنعكس على صفحة الماء في نهر صاف.

قال له النسر: نحن معشر النسور وكل من تراهم من حولي عالم من عوالم النور، وأشقاؤنا التنانين عالم آخر، ونحن نتزاور وبيننا صلة قرابة في الأصل والعنصر، لكن لكل منا مهمته، وكل من ترى إما أن ذلك شكلهم الوحيد فهم نسور وعقبان ونمور في مقام الروح، أو أن ذلك مظهر شكلي لمخلوق آخر له أشكال أخرى، شأني أنا.

وبملح بصر تحول النسر إلى نقطة ضوء، ثم تشكل كهيئة البشر أمام ناظريه، لكنه كان بملامح تختلف عن البشر جمالا رائعا، وبريقا شعشعا، وبياضا لامعا، ونورا ساطعا.

لقد رأى النسر العظيم يتحول إلى شاب وسيم مبتسم، وحين حدق في عينيه رأى شكله الذاتي قد تغير، نظر إلى يديه وكانتا تضيئان، فهم أنه تغير هو أيضا وليس فقط النسر.

مد يده إلى الزهرة ليحملها، شعر بوهج كبير في راحته.

حمل الزهرة بيمناه، لكنها تحولت الى ضوء ورجعت الى مكانها.

حاول مرارا، لكنها كانت في كل مرة تنسل من كفه وترجع كما كانت كأنها تسخر منه وتأبى أن تغادر عالم النور إلى عالم الظلمات.

حملها بفمه، اقتلعها بيسر، أمام ابتسامة الرجل النسر، وكانت من بلور رقيق أزرق وألوانها متعددة، تتلون كقوس قزح ويتغير لون كل ورقة فيها بسرعة، ومن حولها فراشات زرقاء وحمراء وخضراء تتبادل الالوان بينها.

والمكان كله زهور تتماوج، وفراشات تطير.

والريح حين تسري تعزف موسيقى، ناي، أو عود.

لم يكن حينها يعرف العود فلم يخترعه الانسان بعد، أو لم يتذكره، لكنه سمع آلات الموسيقى تعزف عليها ريح الجبل الفضي، وفوقه كانت تأتي أصوات ترانيم تتماوج مع الماء والنور.

نظر مايسان إلى أعلى وقال له: كل الموسيقى قادمة من هناك، من أعلى، موسيقى الروح التي تعلم منها البلبل والشحرور، فن في فن من مبدع كل فن.

وحين تسمع موسيقى تحرك روحك وتجعل جلدك يقشعر وقلبك ينتشي وعينك تلمع، فاعلم انه من فن الروح، فن الأعالي، لأن الروح تذكره.

حتى الرضيع حين تغني له أمه يبتسم وينام، وحين يسمع صوتا رديئا ينتفض، فالموسيقى صوت أنوار القدير حين تلامس العوالم والارواح الطيبة.

اما الأصوات الرديئة النشاز، غناء وعزفا بما فيها من نفث شياطين بوابة الظلام، فهي موت، تقتل كل إحساس راق، وتسعر الشهوة في كائنات عالم الفناء.

وتلك مأساة الموسيقى ومعضلة الفن عندكم، ان يتخذ غطاء لأطياف الوهم، تسرب به شرها وتنشر الرغبة الحمراء. وهذا سيزداد وتيرة في قلب الوقت حتى تقوم النهاية.

لكن تظل الموسيقى بريئة ويظل الفن نقيا كقلب زهرة البلور.

حاول مجددا، أحمل الزهرة بفن كأنك تعزف على وتر أو تنفخ في ناي وتحرك أصابعك ليصدر النغم، وأغمض عينيه، حتى لا تحجب رؤية الظاهر رؤية الباطن، واسمع بأذن روحك حين تعجز أذن رأسك.

سمع قلب الزهرة يخفق، سمعها تبتسم كحورية صغيرة او كجنية من جنيات الضوء المائي، حينها فهم، وحرجت من صدره يد أمسكت الزهرة وأودعتها في وعاء من البلور داخل قلبه.

ابتسم النسر وهو يودعه: إن زهرة بلورية تشرب من الحب وتفوح بأريجه، وينبض قلبها املا وعشقا، لا يمكن ان تحملها في كفك كحجر او في فمك ككلمة، بل لن تحملها إلا بقلبك.

سنلتقي قريبا، حسب زماننا هنا، وبعد زمن طويل حسب زمانكم هناك، وبين كل زمان وزمان مقدار، وكل مقدار له نظام ومواقيت خاصة، وفي هذه الأزمنة البعدية نسيج يمثل الملكوت بكل ما فيه، أعلى وأدنى ووسط، مادي وروحي ونوراني وناري وظلامي وما فوق ذلك وما حوله من برازخ وعوالم، وكل هذا يخضع للناموس الأعظم والميثاق الأقدم، والآن إلى اللقاء.

وضع النسر المتشكل كهيأة البشر وما هو ببشر يده على صدر تايبنغ فسقط من فوق الجبل في دوامة من النور والماء، ليجد نفسه بجوار حبيبته، وقبل أن تنغلق البوابة، كان يرى مايسان يتشكل مجددا في هيأة نسر، ليطير مع ما لا يحصى من النسور، ولتنضم إليه صقور وعقبان عليها تيجان، وكائنات أخرى يعرفها وأخرى لا يعرفها، ومن فوق ذلك رأى تنينا أبيضا ينظر وينتظر، ونزلت دمعة من عين النسر كأنها دمعة وداع.

منشورات ذات صلة

كيف رأى الفلاسفة والعظماء الموسيقى…وكيف قدّمها لنا المعلّم والمفكرّ مازن الشريف

يقول الإمام الشيخ أبو حامد الغزالي: «من لم يحرّكه الربيعُ وأزهاره، والعودُ… شاهد المزيد

بواسطة رجاء شعبان
29 أغسطس، 2024
رواية المعلم والتنين المشهد الخامس عشر: سَفَرْدايِمْ

حين مات الملك الشيطان كما كان يسميه شعبه: سفاريم، وأثناء جنازته، لما… شاهد المزيد

25 ديسمبر، 2022
رواية المعلم والتنين المشهد الرابع عشر: ختمة النسيان

لا بد أنك جننت، ماذا، ختمة النسيان؟ إنها الوسيلة الوحيدة ليحقق نفسه،… شاهد المزيد

22 ديسمبر، 2022
رواية المعلم والتنين المشهد الثالث عشر: شينوبي

في قرية مخفية من قرى المرج الأصفر التي ينادى فيها البان، في… شاهد المزيد

20 ديسمبر، 2022
رواية المعلم والتنين المشهد الثاني عشر: تْسُو مينغ.. ذئب الريح

إنها أرض اليأس، حيث لا شيء سوى الظلال الكئيبة والبؤس والجفاف. وحولها… شاهد المزيد

18 ديسمبر، 2022
رواية المعلم والتنين المشهد الحادي عشر: سَلانْدَرْ

لم يكن سلاندر ملكا عاديا، بل كان الملك الذي تنازل عن عرشه… شاهد المزيد

15 ديسمبر، 2022