الصور الشعرية في قصائد الشاعر مازن الشريف

بواسطة رجاء شعبان
4 نوفمبر، 2025

الداخل إلى صفحة روائع الشاعر مازن الشريف كالمتجوّل في ربيع من حدائق غنّاء وجنائن وغابات، فيها من الغزلان والظباء وأشجار مختلفة الأشكال يسمق فيها البان ويتباهى الزهر بالعبق والألوان .. نجد النبع والعين والحمائم والأنس والروح والريحان…حتى إن خرج قليلاً من بهو هذه الأجواء ورأته نواظر صحراء عربية جذبته فيها رحلة التساول والدهشة والهيمان ليسلو ويستأنس ويسهو ببعض التيه والتهيام والهيام ، وقوفاً بالأطلال والذكرى والخيام حيث طيف الحبيبة الذي يطلّ من الخدر يتلألى كالبدر.. وإن أخذه موج التفكير فسيلقيه في يمّ من العذاب وفراق الأحبة إذ الأمواج تلطمه وقد يغرق في مرامي الوجد وشط اللقاء البعيد ينازعه.
حتى إن تعب وغاب في لجج النهاية رفع نظره للسماء فداعبه القمر بخد الحبيبة المختمر في ليل اللوعة والاشتياق..
وهكذا عزيزي القارئ ستخرج من يمّ إلى يم.. يم من رمال ويم من ماء ويم من فضاء…. ستعرج منحنيات وتصعد جبال … وتجوب بيداء.. وتسبح في محيطات لتنتهي على شطّ المحبوبة حيث الكلمة الجميلة المهمهمة بالحب وحيث خصرها الطريّ الليّن الغض الذي يزيل الألم بمتّكئه ويرمم الترقّق من بعد صدع الصخور..
إنها عوالم الكلمة وتجريدات العبارة… واختزالات الصورة جمالأَ ولغةً.

– الشاعر مازن الشريف معه وعنده وفيه لا تقف عند حد.. بل تنطلق لأبعد الحدود وبكل الاتجاهات دون أن تدري.. يأخذك السحر.. انبهار الكلمة وجمال الوصف وروعة المحبوب.. تقابل الليل وتتكلم مع الفجر وتهمس للأشجار وتتكئ على زند النجم… تتأمل الغزلان وتتذكر حبيبك… ويحاكيك المدى ويرطب حرقتك الندى… تناديك الروح لتصعد وترتاح على حضن سحابة…ويعزف لك العود والكمان والناي والربابة..

– جمال وبهاء وابتكار وإبداع، وفن وتصوير، إيجاد المعنى و سبر أغوار الوجود…
قصائد متنوعة محبوكة بمتانة خيوط التصوير ومغزولة بانسيابية كلمة ولحن الحرير، منسوجة بالعبق من العبير.. مطرزة بالذهب موشاة بالألماس… تأخذك لجنة من سندس الإحساس وبان القدّ الميّاس.

– ما سنركز عليه في موضوعنا؛ هو الصور الشعرية… فالشاعر يمتلك من دقة الوصف وعظيم العبارة وروعة التصوير ما يلوّع به الأحباب و يضاهي به غموض وعلوّ السحاب.

فما هي الصورة؟ أليست كالكاميرا تلتقطها عين الشاعر ويضعها في مخبر ذهنه يُجري على عناصرها تحولات كيمائية لتغدو بخيميائية مدهشة؟ بلى..! في لغتنا الدارجة يحمّضها وهذا التحميض هو تحويل الشريط الملتَقط للصورالواقعية من حالته الظلالية إلى حالته المتجلّية الظاهرة الجمالية..! أي إخراج من اللامرئي إلى المرئي الواضح.. إنها الصورة… رؤية.. نظر… انتباه.. التقاط.. ثم تشذيب وصقل وتهذيب بما يتماشى مع المراد من القصد والغاية، وبما يتفاعل مع أحاسيس و ذوقيّات.

– والصورة الشعرية لا تختلف عن الصورة العادية، لكنها تُرى وتثبَّت بعين شاعر يبدع في فن الرسم للفكرة واللون للتعبير، يعشق الجمال ويدرك كنه الرؤى والتصورات، بعقليّته وذهنيّته ورؤيته، لهذا يختلف التصوير من شاعر لشاعر..

– فالقدرة على التصوير ليست بالأمر الهين.. أن تأتي بالصور الشعرية وتدمجها بالكلمات بل لتكاد تكسو الجمل كما اللحم للعظم، فهي إحاطة بالمكان والزمان والحدث الموصوف أو الفكرة المطروقة..

– جاء من أسماء الله الحسنى: البديع والمصور، فإن كنا نعيش ضمن إطار فضاء على هيئة صورة كونيّة تجمع في تفاصيلها الكثير من الحركات والصور؛ يغدو إتقان جلب الصورة واستحضارها نوع من إعادة الإحياء والخَلْق، كالفنان الرسام الذي يرسم اللوحة مباشرة بريشته، الشاعر يصور بحكمته؛ يرسم بوصفه، يستحضر أدواته عبر الكلمات بلغته، بإنزالها من عالم التخيل والإدراك، حيث تضيف عدا عن الجمالية معنى، ولا يخفى أن الصورة في علم التأثير والإعلام بألف كلمة، ولا شك عند الشاعر سلاحه المتين وملامحه الجاذبة .
……….

– الصورة الشعرية كمصطلح هي وسيلة فنية أساسية في الشعر تُستخدم للتعبير عن الأفكار والمشاعر من خلال تجسيدها في صور محسوسة أو رمزية. وهي تعتمد على أدوات بلاغية مثل التشبيه والاستعارة والكناية، وتعمل على إثارة خيال المتلقي وتوصيل التجربة العاطفية للشاعر بطريقة بصرية وجذابة.
إذاً الصورة لابد لها من عناصر ومواد تضاف إليها كي تخرج بأبهى حلّة عبر أدوات ومنافذ.

فعناصرها هي:
– التجسيد والتخييل: تُحول الصورة الشعرية الأفكار المجردة والمشاعر إلى صور ملموسة يمكن للمتلقي أن يتخيلها ويتفاعل معها.
– وحدة البناء الشعري: هي عنصر أساسي في بناء القصيدة، حيث تعمل على خلق إيقاع معين، أو تعزيز معنى النص، أو وصف جو القصيدة أو الحالة الشعورية للشاعر.
– والصورة الشعرية تعتمد على أدوات بلاغية متنوعة مثل:
التشبيه: المقارنة بين شيئين يشتركان في صفة معينة.
الاستعارة: تشبيه حُذِفَ منه أحد طرفيه.
الكناية: إطلاق لفظ وأُريْد به لازم معناه.
الرمز: استخدام كلمة أو صورة للدلالة على معنى أعمق.

أما عن وظيفة الصورة الشعرية فهي:

التعبير عن التجربة الداخلية: تُعد الصورة الشعرية الوسيلة التي يترجم بها الشاعر أحاسيسه ومشاعره إلى لغة شعرية.
إثارة استجابة المتلقي: تهدف إلى استثارة إحساس المتلقي وإشراكه في التجربة الشعرية من خلال تفاعل حسي وذهني.
وقد تطور مفهومها من الصورة التقليدية التي كانت تُعرف أحياناً بالصورة البلاغية أو الفنية، وتركزت بشكل كبير على العناصر البلاغية المعروفة، إلى الصورة الحديثة، حيث تطورت لتصبح أكثر تركيزاً على التجريد، وتجسيد تجربة الشاعر، وتعدد الأبعاد الدلالية.
– وتحت ظلال هذه المعطيات سنبدأ موضوعنا بإعطاء الأمثلة على ذلك، فنفتح ألبوم صور شعرية من قصائد شاعر يتربّع على عرش الفكر والكلمة: مازن الشريف الذي حافظ على أصول المدرسة التقليدية المعتمدة على العناصر البلاغية المعروفة، مطوّراً أدواتها في مدرسة حديثة اعتمدت التجريد والدلالة والرمز، لتخرج مدرسة فنية شعرية صورية مازنية بنكهة حديثة مستحدثة استثنائية، متجذرة ومتفرعة ذات أفنان ومدّ.. مستفيدة من أدوات العصر التي هي الصورة الفوتوغرافية، فكل قصيدة مرفقة بصورة مناسبة تختزل المعنى وتوحي بخيال متجسد، وصولاً إلى استحداث آخر سبق غيره به وهو غناء قصائده باستخدام وسيلة العصر القوية: آلة الذكاء الاصطناعي بكل حرفية، جامعاً لتجارب البشرية بكل المستويات وعلى مختلف الاتجاهات والأبعاد، لتخرج لنا القصيدة حالة تعبيرية وفنية، صورية شاعرية غنائية، مكسوّة باللحن والموسيقى السمعيّة، عدا عن الموسيقى الباطنية الوجدانية.
……
جمال الصور وبلاغتها
( تجسيد.. تخييل.. استعارة.. تشبيه.. كناية.. دلالة.. رمز.. تجريد)

” الصورة الحسية ” :
صورة الطفل والنمر من قصيدة الطفل والنمر:
// أنا ذلك النمر الذي لا يرهب.. في الحب طفلٌ عند كفّك يلعب
– فالشاعر نمر قوي لا يخاف شيئاً لكنه بالحب يغدو طفلاً صغيراً يلعب عند كفّ حبيبته.

( تشبيه – استعارة)، فهنا الصورة المتضادة في الظاهر المتكاملة في المعنى؛ وقد استعار الشاعر قوة النمر ونعومة الطفل للتعبير عن جوهره.


و”صورة الطفل المخذول” من قصيدة آتيك طفلاً:

// آتيك كالطفل مشتاقاً وجذلانا.. أصبو إليك شغوف القلب ولهانا
// فيصدّني منك كفٌّ كنتُ ألثمه.. وأبيت ليلي كسير اللحظ حيرانا

– الصورة بالعموم صورة طفل متلهّف مشتاق لكفّ يأمّه فيصدّه هذا الكفّ بكل خيبة الخذلان ليقضي ليله كله مكسور العين محتاراً من هذا التصرف.

و” صورة الأم الرؤوم مع وليدها”:

// وأحنّ يا لهفي مثل الرؤوم على.. خدّ الرضيع وقد ضمّته نعسانا //

صورة الأم التي تعطف على رضيعها وقد حضنته وقربت خدها من خده ليغفو في أمان ودفء حنان.

– (استعارة- تشبيه)، استعار الشاعر صفة الرؤوم ليعبر عن حالة العطف عنده فهو شبه حاله بالأم الحنونة على رضيعها.

“صورة الطير الذي يشجو” :

// ونحتُ يا لهفتي كالطير على فنن.. أبكى من الشجو أوراقاً وأغصانا

– (تشبيه)، شبه الشاعر نفسه الحزينة وهو يبكي وينوح كالطير الذي يشدو بشجن الأوراق والأغصان

“صورة الغزال وهو يمشي لنبع الماء كطير القطاة” :

// وأنت يا متلفي مَشيُ القطاة إلى.. ذاك النمير وكم شابهتَ غزلانا
هنا استعار الشاعر من الطير مشيته ومن الغزال شكله ليشبه حبيبه بهما بشكله وكيفية مشيته.

“صورة القد الممشوق والصفصافة المائسة” :

// يا قدّك البانُ يا صفصاف مائسةٍ.. كم حيّرَ القدُّ أنظاراً وأجفانا

( تشبيه واستعارة)، قدّ الحبيب الممشوق كشجر البان الباسق لكنه كذلك مائس كالصفصافة الطرية بأغصانها، اللينة المتمائلة.
– هنا الشاعر استعار من البان القد الممشوق ومن الصفصافة الطراوة.. تشبيه ضمن تشبيه، استخدم الكناية، فالبان كناية عن القد الممشوق والصفصافة عن النداوة. وكله في البيت الواحد.

……….
“الصورة المعنوية” :

“صورة لخمرة العيون”:

// أما العيون وقد جرّبت خمرتها.. سكرٌ من الغيب إعجازاً وإمكانا //

( كناية)، هل للعيون خمرة بالمعنى الحسي؟ لا، لكن عند الشاعر يجوز فهذه صورة معنوية، كناية عن شدة فتنة وسحر العيون التي تجعل المرء ثملاً من النظر إليها فكأنه يشرب في نظره كاسات الخمر والهوى الغيبي فيسكر من شدة الإعجاز وتمكّن هذه العيون منه، وقد اخترق عالمنا الحسي وغدا في عالم غيبي لا يراه سواه…
– هذا هو جوهر المعنى والوصف حين يختمر ويتخطى الملموس إلى مالا يرى.. من الإعجاز والتمكين.
– وهنا نتساءل أليس الشعر إعجاز وتبيين؟ أليس روح البيان وجوهر الكنه؟ بلى! والتشبيه يساعد في تجسيد المعنى.

من قصيدة الطفل والنمر وقصيدة آتيك طفلاً إلى قصيدة: فودعي

“صورة المختمر بالجوى” :

// وَالْعَاشِقُ الْوَلْهَانُ يُسْكِرُهُ الْجَوَى
مِنْ نَظْرَةِ النَّضِرِ الْبَهِيِّ الْأَرْوَعِ //

– صورة معنوية وحسية: إذ تغدو حرقة الشوق للعاشق كالخمر التي تتسبب بالسكر من نظرة المحبوب النضرة.
– فالتشبيه هنا للجوى الذي يشبه الخمر كلاهما يأخذان بلبّ صاحبه، وكذلك لنظرة المحبوب الذي استعار له الشاعر صفة النضارة ووصفه بالأروع.

” صورة الحسن الوله” :

// وَالْحُسْنُ لِلتَّهْيَامِ رِيحُ مَجَامِرٍ
فَالنَّارُ تَعْظُمُ فِي حَنَايَا الْأَضْلُعِ //

والحسن في حالة المستهام الولّه، كالهواء الذي يحرك جمر المواقد فيولعها أكثر، إذ أن شدة الجمال تحرك الجمر الساكن بين أضلع العاشق وتلهبها اشتعالا.
– صورة عبقرية المعنى والالتقاط.

“صورة الصبايا الفاتنات” :

//وَالْغِيدُ مَا فَتِئَتْ تُجَرِّبُ سِحْرَهَا
بِالْمُقْلَتَيْنِ وَبِالْجَمَالِ الْأَرْفَعِ //

والغانيات الجميلات لها مخبر لتجارب العشق القاتل، حيث تضع وصفتها السحرية في العيون التي تفتك بالناظر إليها.
– هنا استعار الشاعر وصف السحر للعيون، فالعين من وجهة نظره خير مكان لوضع السحر الذي يفتك بالناس.
– تشبيه رائع وجميل.

” صورة العاشق الذي يسكن المدى” :

// قَالَتْ لِعَاشِقِهَا وَقَدْ سَكَنَ الْمَدَى
أَقْبِلْ سَلِمْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ لِمَخْدَعِي //

هل العاشق يسكن المدى؟ صورة تخييلية معنوية غريبة وملفتة!

” صورة الليل الذي يطير” :

// أَسْرِي بِحَفْنِ اللَّيْلِ نَحْوَ خِيَامِهَا
وَأَتُوهُ فِي دَرْبِ الْهَوَى عَنْ مَهْيَعِي //

هل لليل جفن؟ نعم عند الشعراء! ويسري به كذلك نحو خيام المحبوبة، هنا كناية عن التخيّل، فيتوه الشاعر في درب الهوى ويحيد عن دربه الواسع إليه.

” صورة السحاب المسرع” :

// كَمْ جُبْتُ مِنْ طَلَلٍ لِأَجْلِكِ وَالْخُطَى
خَلْفَ الظَّعِينَةِ كَالسَّحَابِ الْمُسْرِعِ //

حالة العاشق وهو يجوب الأمكنة ويمر بالأطلال ليصل حيث محبوبته الراحلة كالغيم المسرع إلى أمكنة أخرى، فهنا كناية عن الجري والسرعة خلف المحبوبة كالسحاب الذي يعرف مقصده ومرمى مطره فيجوب السماء مسرعاً في طريقه.
– إنها لعظمة التشبيه!

“صورة سؤال البيد” :

// وَلَكَمْ سَأَلْتُ الْبِيدَ عَنْ أَخْبَارِكُمْ
وَشَكَوْتُ لِلْغِزْلَانِ حَالَ الْأَقْدَعِ //

هل البيداء تجيبنا حين نسألها؟ نعم، فكم سألها العاشق وهو يجرب، يتقفّى أخبار محبوبته؛ أين وصلت وبأي مكان استوطنت؟ وكم شكا للغزلان حاله المشتد به.

– هنا يشبه الشاعر البيداء بالإنسان الذي يسمع ويجيب، وكذلك الغزلان تسمع الشكوى، فهذه كناية عن حالة الشاعر الغريبة التي وصل إليها واستعارة صفات الإنسان وإلباسها لغيره كالسمع والإنصات للبيداء والغزلان.

…. …

” الصور الجمالية ” :

إلى قصيدة ضحكة الفجر والعذوبة الشعرية:

// يا ضحكة القمر الحيي.. وخمرة الخدّ الندي
ونظرة الظبي الرؤوم.. اغتال من طرف خفي
ومشية الجذل الطروب.. وفتنة الذرب الذكي //

هنا للقمر ضحكة وحياء كما للخدّ حمرة، فالحبيب يشبه ضحكة القمر إن كان للقمر ضحكة! حيث أن الشاعر استعار له ضحكة ليتمكن من تمكين الصورة، فالقمر جميل فكيف إذا ضحك؟ والحبيب لا يشبه القمر فحسب بل ضحكة القمر، هذا الحبيب الجميل الذي له خد أحمر، هذا الذي بنظرته يشبه الظبي وهو ينظر بعين الوداعة والعطف وقد استرق النظر واغتاله في خطفة من اللحظة، يمشي الحبيب متبختراً كالمنتشي بالطرب وقد امتلك غواية الذكي الذي لا يعجزه شيء.

– الصورة امتلكت تحت مضامينها صفات، فإذ بها ضحكة القمر وخد الورد، فالحمرة هنا كناية عن الورد، ونظرة الظبي وفتنة الذكي صورة سجعيّة غنائية الوصف ناطقة بالصور.

………

” صور تجسيميّة ” :

وإلى… تجسيم المجرّد وتلوين الصفات في قصيدة سدرة المعراج:

// يا حلكة الليل الطويل الداجي.. في شعر مَن فتنت عيون الراجي
موج الغرام إذا استبدّ أطاح بي.. فأميل باناً في أساور عاج
وأميس في غنج الدلال كأنني.. أشعلت عين الكون فالليل خلف رتاجي //

-ليل أسود وازدادت حلكته بلونه الطاغي لكن ليس في ليله هو بل في شعر التي فتنت عيون مرتجيها.
التشبيه هنا لشعر الحبيبة الأسود الحالك كالليل وهذه الحبيبة ليست عادية بل صبية فاتنة لعيون طالبيها.

// موج الغرام إذا استبدّ أطاح بي.. فأميل باناً في أساور عاج //

– للغرام موج إذا طغى يطيح بصاحبه، فيميل هذا العاشق كغصن البان في جسده الذي يشبه العاج..

– الصورة هنا تشبيه الغرام ضمنياً بالبحر حيث استعار الشاعر الموج كصفة ملازمة للبحر للتعبير بلسان المحبوبة التي إن أطاحتها أمواج الغرام تنسكب بجسدها العاجي متمايلة كغصن البان.
– صورة جميلة جداً لجسد المحبوبة المثقل بالغرام.

// وأميس في غنج الدلال كأنني.. أشعلت عين الكون فالليل خلف رتاجي //

هذه المحبوبة تتحرك بنعومة في دلال وتشعل في غنجها عين الكون ليستيقظ ويبقى الليل خلفها، وراء بابها .
– صورة فائقة الاشتعال فهي لا تشعل الليل فحسب هذه الذي سكنها الغرام وتمكّنت منه، بل تشعل عين الكون كله بالحياة والغنج والدلال لينزوي الليل خلف الأفق كله ويشرق بها.
– الصور هنا اندماج الحسّي بالمعنوي، التجسيمي بالتخييلي، مستعملة كل أدوات وعناصر البلاغة من استعارة وتشبيه وكناية ودلالة ورمز وتجريد.

……..

الصورة التجريدية في الشعر

وقبل المتابعة في شرحنا وتفصيلنا لابد من التوقف عند الصورة التجريدية و إعطاء فكرة للقارئ عنها لتقريب المعنى وفهمه، فما هي خصائص الصورة التجريدية؟
خصائصها هي:
– التركيز على الشعور والمجرد بدل الواقع: تتجاوز وصف الواقع المادي لتعبر عن حالة وجدانية أو فكرة مجردة، مثل الحب، أو الكراهية، أو الوحدة.مما يتيح للقارئ تفسير النص بطرق متعددة.
– الإثارة العاطفية: تهدف إلى توليد استجابة عاطفية أو فكرية لدى القارئ، وإثارة الفضول و التأمل لدى القارئ من خلال الغموض والتجريب، مما يمنح النص عمقًا وتجددًا في كل قراءة.
– الرمزية والغموض: تستخدم الرموز الغامضة لخلق إحساس بالعمق، مما يفتح المجال لتفسيرات متعددة ويشجع على التأمل. من خلال الغموض والتجريب، مما يمنح النص عمقًا وتجددًا في كل قراءة.
– التجسيد الذهني: تحوّل المفاهيم المجردة إلى صور ذهنية، كتجريد “الليل” ليرمز إلى العزلة أو الغموض.
– العناصر الموسيقية: قد تستخدم عناصر مثل الوزن، القافية، والتكرار لخلق تأثير موسيقي وإحساسي مشابه لتأثير الألوان في الفن التشكيلي التجريدي.
– اللغة كأداة تعبيرية: لا ترتبط اللغة بقواعد تقليدية صارمة، بل تتحرر من القيود لتخدم الغرض التعبيري، حيث يمكن تحويرها وتفكيكها للتعبير عن شعور ما.
أمثلة توضيحية:
– تجريد المعنى: تحويل الشعور بالألم إلى تجريد ذهني، أو تجريد المفاهيم المرتبطة بالزمن.
– تجريد الزمن: استخدام صورة الليل كمثال على تجريد الزمن، حيث ترتبط طبيعة الليل المبهمة بالعالم الذهني غير المادي.
“نمطيّة الصورة وتجدّدها” :


– طبعاً الدارس في قصائد الشاعر مارن الشريف سيظهر له ذكر الغزال والظبي بشكل لافت، وتكاد لا تخلو قصيدة من ذكره أو التشبيه به ووصفه.
وربما يعود ذلك لرمزية الغزال عند أهل الشعر والصوفية أحياناً، وربما في علم نفس الشاعر قد يكون تأكيداً على الرقة والوداعة عند المحبوبة، فالأنثى يجب أن تحمل صفات الأنوثة المتجسدة بالنعومة والنظرة الحيية والليونة والعذوبة وما شابهها… وكلها متوفرة في الغزال أو الظبي.


قصيدة أنا في غرامك:


// يا شبه غزلان الفلاة سبيتني.. ما كنت قبلك بالصبابة عالما //

– هذه المحبوبة المُدلّلة تغدو هنا وفي بيت آخر للشعر شبيهة الغزلان السارحة في البوادي، تسبي وتعلّم الصبابة التي لم تكن من دونها.

– هل أجمل في الشعر من صورة الغزال الذي يتحكم بصاحبه، رغم أن الصورة نمطية لكنها عند الشاعر هنا متجددة فهو يعطي الغزال الذي لا يتحكم بأحد وأضعف حيوانات الغابة يعطيه القوة والتمكن وتعليم العشق والصبابة… هذه الصورة نمطية الشكل متجددة المعنى.

– هذا دلالة على قيمة الرقة والتركيز عليها لجانب الذكاء وخاصة عند المرأة، لأن المرأة من دون الرقة تفقد جوهرها.
– نظرة تجريدية رمزية.

……….


” الصورة المزاجية النفسية”

قصيدة موتور الصبابة:


// يُمسي الذي نهوى ويُصبح معرضاً.. ويمدّ في يمّ الفِراق شراعه //

الذي نهواه متقلب المزاج يمسي الذي نحبه وكما نريد، ويصبح وقد أعرض عنا ويمد شراع الفراق بينه وبين الحبيب.

– صورة الفراق الذي له بحر.. يشبه الفراق بالبحر الذي يمدّ فيه شراع لكن شراع الفراق..



// ظبيٌ كأن الظبي قلّد حسنه.. والشمس في كَمَدٍ تريد شعاعه //

ظبي من البشرأحلى من الظبي الجميل الذي نعرفه من الغزلان، بل الظبي الحقيقي يقلد حسنه ويأخذ منه، والشمس كذلك تبقى حزينة، تريد شعاعه.

– شبه الحبيب بالظبي الأحلى من الظبي الذي نعرفه وأحال للشمس إرادة البشر التي تريد شعاع هذا الحبيب. الشمس هنا غدت مزاجية، تحزن، تفرح.. يصيبها الكمد كالبشر!



من قصيدة؛ سدرة المعراج:

// هِيَ هكذا مِنْ قَبْلُ ظَبْيٌ قَاتِلٌ
ومُخَاتِلٌ وَمُمَاطِلٌ وَمِزَاجِي //


صورة المزاجية هنا بالوصف الكلامي المباشر لكن عن طريق التشبيه بظبي… يا لها من صورة رائعة!
كالبشر!


صورة رمزية مجردة :

// والشعر جيش الليل عسكر عنده.. والوجه ضوء الفجر كان قناعه //

أعار الليل جيوش تعسكر في شعر الحبيب، دلالة شدة جمالية شعر الحبيب، فهو كالليل الذي تعسكر فيه الجنود وتتخفى، وإن كشف عن ستره بان وجه الفجر فيه، وجه الحبيب فجر والشعر ليل.
” صورة رمزية مجردة”


قصيدة في أسوار قرطبة:

// إني أحب نقي الخدّ طيبَهُ.. والجيد آنية البلور تكوينا//

صورة الخد النقي والعنق الشفاف كآنية البلور الشفاف الذي يُرى منها الماء.
“صورة جمالية بديعة”

// والقدّ مياسٌ ليس الغصن يشبهه.. يرقى على الغصن تنعيماً وتليينا //

صورة القوام الممشوق اللين المتمايل أكثر من غصن الشجر؛ بل يفوقه بالنعومة ويزيده ليونة.
“صورة حسية بليغة”.

// بدرٌ لدى الوجه بات الليل يحضنه.. ليلٌ لدى الشَّر أبكى البدر تمكينا //

– صورة الوجه الذي يشبه البدر والليل يحضنه.
” صورة رمزية راقية ورقيقة “.


……

” صور جمالية جلالية ”

قصيدة ألا طال هذا الليل:

// وإني لدى التذكار عند خيامهم.. رضيعٌ ولم تُنزَع عليه تمائمه //

صورة الحبيب الذي يتذكر عند خيام حبيبته كالرضيع الذي مازال في قماطه لا يستطيع أن ينزع عنه أربطته، هنا كناية عن التعلق الشديد.
– ” تشبيه بالغ الدّقّة”

// والشوق كالليث الهزبر إذا ارتمى.. قد مات من وقفت عليه قوائمه //
صورة معنوية لشراسة الشوق وقوته فهو الأسد المتين الذي يميت من تسقط عليه أرجله.
– “صورة جلالية شديدة”

// ناديت عند الظّعن ظاعنة الظبا.. والحب ناحت في الفؤاد حمائمه //

صورة الحب الذي يجعل له حمائم تنوح في القلب عند رحيل الظبية الحبيبة .

// رقيق نقي مائس الخصر إن مشى.. بقد كغصن البان بل هو راسمه //

صورة للحبيب المتمايل في خصره النحيل كعود البان بل كأنه هو من رسم غصن البان بخصره.

// غدوتُ بما فعل الصفيّ وما رمى.. كغريقِ يمٍّ والرياح تلاطمه //

– صورة الحبيب الغريق بحب معشوقه تلاطمه الرياح في عرض البحر. ” صورة حطامية”

// وكم بتّ موجوع الفؤاد متيّما.. غصناً تمزّق بالغرام براعمه //

– صورة البراعم التي يمزقها الغرام صورة مؤثرة جداً بدلالتها العذبة. ” صورة تمزيقية”.

……..

“تكرارية الصورة المحبّبة :

– المتتبّع لقصائد الشاعر مازن الشريف سيشهد تكرارية ببعض الرموز والمصطلحات كاليمّ والغرق والحمامة والظبي والغزالة والبان والقد والخصر الميّاس، لكنه تكرار مستحبّ، يستحضر المصطلح ويغيّر الصور بمشاهد متعددة متلونة كألوان قوس ما بعد المطر.

دلالات المعاني وتجريدية الصورة في قصيدة زهور الماس:

// وألوذ صمتاً مستبداً مطبقاً.. ويد الغرام الصلد في أنفاسي //

الغرام هذا الرقيق العذب قد يغدو بلحظة قاسي كالصخر عنيد يمسك بيده على الأنفاس ويحاول نزع الروح.. هذه الصورة المعبرة عن قسوة الغرام حين يسطو على القلب ويطبق على الأنفاس.

// يا ظبية الغزلان يا قمر الهوى.. وحمامة تسبي قلوب الناس //

يعود الشاعر ليصف محبوبته بأنها أجمل الغزلان وظبيتهم فهي قمر الهوى كله، “قمر الهوى” :عبارة رائعة لصورة تجمع الحسي بالصوري، فالهوى نحسه ونشعر به لكن القمر نراه، وأن تكون هي صورة الهوى المعروف بالميل والرغبة فهي ارتقاء بالحسي للمعنوي وتطهير هذا الحس من لوث ماعلق به من أفكار خاطئة.
“صورة ارتقاء” .

– كذلك هذه المحبوبة لا تشبه الغزلان فقط بِرقّتها وظرافتها فهي تشبه الحمامة في وداعتها وسلميّتها، تغزو قلوب الناس وهي تتنقّل بينهم، وتسبي ما شاءت ممن تبقّى.
– الشاعر يرتقي بوصف المرأة ليبقيها عند حدود الحب والرقة والتأثير والجمال والسحر. فهي الأنثى التي خلقها الله بكل جماله وقدرته من بهائه ومعجزته. المرأة معجزة الضعف بأنه قوة.

– للحقيقة الشاعر ينزف الشعر رقةً وعذوبةً ودمعاً ويطير به قصيدةً، مستعيراً جناح الليل وأرواح خفية من عالم الملكوت، إنها قصائد تجريدية ترقى بالذوق لعالم السمو.

لماذا هي تجريدية؟ وكيف يكون ذلك؟

القصائد التجريدية هي التي لا تسعى لنقل معنى حرفي أو واقعي مباشر، بل تعتمد على الأشكال، الألوان، الإيقاعات، والرموز للتعبير عن المشاعر والأحاسيس والأفكار بشكل غير تقليدي. هي تركز على خلق جو أو حالة شعورية في ذهن القارئ، بدلاً من وصف أحداث أو شخصيات ملموسة.
وهذا ما نلمسه حقاً في الشاعر المبتكر الذي اختزل الحكمة والفلسفة وضاقت أحياناً العبارة البسيطة عليه فاختار التجريد والرمز في إيصال فكرته عبر الشعر.
” صور غيبيّة ”

قصيدة عندلة وقمة اكتمال الصورة والتجريد:


// ولقد شربت شراب وصلك بالحمى.. وهمست يا شبَه الغزال تدللي //

// من وجهها للعين بدرَ كاملٌ.. من همسها
للأذن شدو البلبل //

عند الشاعر يغدو الوصل شراب والانقطاع ظمأ وهذه الصورة الشعرية الجميلة لإلباس المعاني ثوب الصور البصرية الذوقية تجمع بين الحس والتذوق وتقريب المعنى البعيد للتعبير، والشاعر هنا شبه حبيبه بالغزال وناداه أيام الوصل بأن يتدلل، وتكرر ذلك عندما كان في محميات الدور والخيام مردداً الذكرى بشيء من التحسر واستعادة لذة شراب الوصل فكم ناداها ودللها ورأى فيها شبه الغزال.

– ويطل البدر في وجهها ويطلع من فوق خدها للعين وقد اكتمل، ويسمع في همس صوتها شدو البلابل. فالشاعر يرى في وجه حبيبته البدر المكتمل فيشبهها به ويستعير جمال البدر ليصف جمال محبوبته ويسمع في صوتها ما يذكره بغناء البلابل.

قصائد من عالم السحب، وقصيدة لك يا صبية:

// يا ظبية خُلق الجمال لأجلها.. وهفا الصباح لثغرها البسام
روحي إلى روحي التي أسكرتها.. من نظرةٍ جادت بكأس مدام //

المحبوبة ليست فقط جميلة بل هي جوهرالجمال والمعنى، لأجلها خُلق الجمال ويلهف الصباح لثغرها المتبسّم.
– الصورة تتخطى التشبيه إلى مابعد الجوهرية والكنهية والسببية لتجيب عن أسئلة يعجز الفقهاء عن الإجابة عليها فيأتي الشاعر ببيت قصيدته الفقهية وقد أرسل الجواب والمعنى بحروف شاعرية.

// روحي إلى روحي التي أسكرتها.. من نظرةٍ جادت بكأس مدام //

فتعالي إلى روحي يا روحي فقد أسكرتها حين نظرت إليها بنظرتك التي حملت كأساً امتلأ بالخمر السماوي المباح.
– قد يكون الشاعر يصف تلك المحبوبة السماوية التي هي روح.. فتكون هنا الصورة الشعرية تضمينية صورة ضمن صورة.. ولكننا هنا لسنا بوارد المقصد بل سنتوقف عند جمالية الصورة الخارجية ونكتفي بها.

من قصيدة سدرة المعراج ومن اسمها الإرتقاء وسبر الكون :


// سُبْحَانَ مَنْ خَلَقَ الْجَمَالَ وَسِحْرَهُ
فِي رَوْعَةِ الْإِبْدَاعِ وَالْإِخْرَاجِ

إِنَّ لَيْلَةً عَانَقَتْ طَيْفَ حَبِيبَتِي
طَارَ الْفُؤَادُ لِسِدْرَةِ الْمِعْرَاجِ //


……


” الصورة التساؤلية”

قصيدة علمينيي:

// علّميني
كيف احتمال الهجر
حين يصدّني القمر الجميل
فأنا الأسير بكل حال والقتيل //

صورة القمر الجميل وهو يصدّ، فالقمر له روح ويد ويصد، هكذا يرى الشاعر ويشبه محبوبه بالقمر وهو يقف بوجه المحبوب ويردعه.


“الصورة التجسّميّة” :

قصيدة غزال الجنتين:

// أحبك يا غزال وإن روحي.. تهيم بأبيضين وأسودين
وتعشق ما يميس كغصن بانٍ.. ومشهد وردتين بوجنتين
وجيداَ مثل كأس الماء غضّا.. وكفاً كالمياه بنبع عين //

عودة إلى الغزال وتشبيه الحبيب به ومناداته باسمه، فروح الشاعر تهيم بعيون هذا الغزال وتعشق الخصر الذي يميس كغصن البان، كما تُظهر الوردتين المتورّدتين بالخدَّين. وتصف عنقاً نقياً شفافاً صافياً ككأس الماء وكفاً للحبيب رقراق مسبل سلسبيل كمياه النبع في المسيل.

– صور لاستعارات عظيمة من الغزال والورد وغصن البان وكأس الماء والنبع وكله إعارة لأجل وصف تفاصيل جمال الحبيب.

ومن قصيدة هم أنجدوا قلبي هذا البيت الفتّان وصورة رائعة البيان:

// يحدث عن خمر الجوي الأبريق.. العين تفتن والقوام رشيق //


” صور معنوية عميقة ” :


” صورة الأمل الممدود” في قصيدة: والسلام:


// وخذني بعيداً
إلى حيث لا نلتقي
كي نلتقي خلف حزن الرحيل

التقيني
كما يلتقي الموج
دون لقاء //

” صور التجسيد الذهني وقصيدة أسمر” :

موسيقى الغناء العابقة:

// فيا قاتلي بالجوى.. أيا روحاً بل أكثر
ويا من له ضحكة.. هي الكون بل أكبر
فذا خافقٌ راجفٌ.. وذي دمعة تمطر
وذي حمرة للجوى.. وذا عاشق يسكر
أحبك يا متلفي.. ويغتالني الخنجر
وكفّك كف الرضا.. وكفّ الفتى أحمر
وخدّك ورد الربى. . وحلم الفتى مزهر
وأنت الذي ضمني. ودمع الأسى جوهر
وفي البحر لم نرتم.. بنا ترتمي الأبحر //


قصيدة هم أنجدوا قلبي والموسيقى التصويرية:

// يحدث عن خمر الجوي الأبريق.. العين تفتن والقوام رشيق //


” صور تجريدية وحسية” :

قصيدة هواك بقلبي:

“تجريد ذهني رائع” :

// وأنت كمثل النار طبعك ثائر.. وعجبتُ من نارٍ تسيل وتثلج
وقدّ كعود البان خصرُه مائس.. وصدرٌ كموج البحر فيه تموّج //

“تجريد حسّي رائع” :

// يسبيني بجيدك ضوء شمس.. ملكت الروح يا شبه الغزال
فخذني بالحنين إليك طفلاً.. وخذني بالمحال وبالخيال//


” صور جوهرية كنهية”:


// أنا والليل نهذي
من كؤوس الوجد نسكر
أم ترانا في هوانا
مثل قلب الموج نُكسر
إن هذا الحب فن
إن هذا الحب مظهر
مثل شمس كم نراها
مثل روح ليس يُنظر
مثل أزهار بحقل
مثل جيش مثل عسكر
مثل طفلٍ بات يبكي
مثل ليث راح يزأر
حبنا يا بنت روحي..
كل ما قلنا وأكثر //

هذه الصور الاختزالية لجوهر المعاني وإلباسها لبوس التجلّي عبر الفكرة والكلمة والشعر لَحكمة بالغة في سبرأغوار الكنه ذاته لكل شيء للوصول إلى الذات الكلية، فالإنسان والليل واحد كلاهما يسكران من كؤوس الوجد والشوق، ويُكسر قلبَيْهما مثل موج البحر من هوى المحبوب.

– والحب فن والحب روح تظهر مثل الشمس ومثل أزهار الحقول ومثل الجيوش التي تعسكر والطفل الذي يبكي ومثل الأسد الذي يصرخ، هو العشق والهوى هكذا يفعلان بالأشياء… يثوران بها، يقلبانها ويحرّكان فيها جمر اللوعة والألم.


قصيدة عيناك:

// وَالشِّعْرُ مُنْبَهِرٌ قَدْ تاهَ ناظِمُهُ
بِالحَرْفِ في لَحْظَةِ الإشْراقِ حَيّاكِ

يُسَبِّحُ الوَجْدُ إِذ يَلْقاكِ ضاحِكَةً
وَيَسْجُدُ الحُسْنُ إِذ يَلْقى مُحَيّاكِ

كَمْ أَعْلَنَ الغُصْنُ أَنَّ القَدَّ صاحِبُهُ
وَالغُصْنُ يَعْجَزُ عَنْ فَهْمٍ وَإِدْراكِ

وَأَرْسَلَ المَوْجُ أَشْواقًا يَنُوءُ بِها
لِلْخِصْرِ يُعْلِنُها مِنْ خَطْوِ مَمْشاكِ

وَحاوَلَ البَدْرُ في وَضّاءِ طَلْعَتِهِ
أَنْ يُشْبِهَ الوَجْهَ لَكِن صاحَ رَحْماكِ

وَالشَّمْسُ مُذ أَشْرَقَتْ نارٌ بِوَجْنَتِها
خَجَلًا وَأَجَّجَ نارَ الشَّمْسِ خَدّاكِ

تُفّاحَةٌ نَظَرَتْ قالَتْ لِجارَتِها
ذا صَدْرُ بَيْتٍ غَفا ما قالَهُ الحاكي

وَاللَّيْلُ مُبْتَهِلٌ في مُقْلَتَيْكِ فَما
ذاكَ السَّوادُ سِوى قَلْبُ الدُّجى الباكي

وَأَنْتِ ما أَنْتِ ما هذا الَّذي صَنَعَتْ
عَيْناكِ بِالعِشْقِ ضَاعَ العِشْقُ لَوْلاكِ //




قصيدة عيناك وترجمان الصور الكنهية الجمالية واختزالية الجوهرية الصورية الشعرية، فقد تجلّى على الأفق الأعلى مَن نظمها أو تجلّى عليه الروح الأبهى وهو يغزلها. حيث تأتي لحظة الإشراق وينسكب الشِّعر يحيّي المحبوبة، وحيث الوجد يسبح عندما يراها ضاحكة، والحسن يسجد إن يلقى محيّاها.. كلها صور مزيج بين الحسية والإدراكية وخلط بينهما ليخرج ذاك المزيج العجيب من الجمال المكنّه بالإدراك، فالغصن والقدّ صنوان وقد أعلن الغصن بخلقته ذلك وهو هنا كناية عن خصر الصبية وقوامها الذي يشبه غصن الشجر، فهل أدرك الغصن ذلك وقد عجز عن فهم هذه المسألة لولا الشاعر الذي حلّ المعضلة وأعلن الشبه العجيب.

– كذلك الموج لم يعد يتحمل حمولة ثقله من الأشواق فأرسلها للخصر تفرغ وتتماوج سعيدة في خطو الحبيبة وممشاها. والبدر حاول في عزّ اشراقته وبهاء طلعته أن يصل لجمال وجه الحبيبة لكنه عجز ونادى بالرحمة والاستجداء. وخجلت الشمس عندما رأتكِ فتوقدت وجنتها ناراً تأججت في خديّ الحبيبة.
أما التفاح فهمس في صدر الحبيبة تفاحة تقول لناظرتها بأن هنا صدر البيت على لسان الحاكي.
والليل الذي سكن مقل الحبيب ظل يبكي مبتهلاً حتى فما سواد عينيكِ إلا بكاءه.
وأنت من تكونين أنت فلولاك ضاع العشق وما له أن يكون من دونك.

كل معالم الطبيعة الجميلة ترتسم في هذه القصيدة لتصف جمال المحبوب والذي جعله الشاعر يفوقهم سحراً بل هو الذي شكلهم بعد أن شكّلوه.

– اختزالية الفهم والمعنى بتعبير الصورة تدخل لبّ الشيء لتشرحه وتفصله وتعطيه حلّة تشريعية جمالية، تقرّب من أرض الواقع بمثال صورة حسيّة .


” صور فلسفية ” :

قصيدة حيرة:

// يا من أراه ولا أراه كأنني.. قد بتّ أسكنه ويسكن أحرفي //

من قصيدة أخرى:

// الليل بحر الروح ترحل فيه.. والليل سر والمدى يخفيه
الليل يا ليلي كلامٌ مبهم.. ما الليل من ليلى وهل تشفيه //


الصور الفلسفية في الشعر هي تحويل الأفكار الفلسفية المجردة إلى صور حسية ورمزية ملموسة، تجمع بين العقل والوجدان والفن. فهي ليست مجرد تعبير عن الأفكار بل بناء رؤية شعرية متكاملة تقدم تأملاً عميقاً في الوجود والمعنى بطريقة مبتكرة وجذابة. فالشاعر لا يعرض آراءً فلسفية جاهزة بل يعرض رؤية من خلال صور تعكس ما اختمر في نفسه من أفكار.


// وأنت يا أرقي ويا غرقي..
سقوطي في الردى..
حين المدى يُجتَاح بالوجع الرهيب
كبر الفتى يا مهجتي
والعمر راح يحثّ الخطو
يعجل للمغيب
وقافلتي بتيه البيد ضائعة
وجائعة ذئاب الريح
تعول في الكثيب //


إذاً؛ الصورة الفلسفية في الشعر تجسّد الفكر العميق، إذ تجمع بين العقل والعاطفة، كما أنها وسيلة للإلهام، وتمتلك خاصيّة الجمالية والتأثير، وتبتعد عن الفلسفة المباشرة.


” صور قدريّة” :

قصيدة زهور الماس:

// أَنَا فِي دُرُوبِ الحُبِّ ضَيَّعَنِي المَدَى
كَيْ تُشْرِقَ الأَشْعَارُ فِي قِرْطَاسِي

فَلَكَمْ نَزَفْتُ لِأَجْلِ حَرْفِ قَصِيدَةٍ
وَلَكَمْ بَكَيْتُ عَلَى زُهُورِ المَاسِ //

فالمدى ضيّع الشاعر في دروب الحب ليصنع منه شاعراً، إذ أن دواة الشاعر هو التيه والتساؤل وعدم الوصول، وكم نزف هذا الشاعر لأجل أن يكتب قصيدة فكان نزيفه حبر الحروف وكان الثمن أن يبكي حبيبته وألا يلتقي بها.

قصيدة تيه المطلق:

قصيدة تيه المطلق تعبق بالصور القدرية، والصور القدرية كالفلسفية بل هي جانب منها لكنها رأس الحكمة وفيها من التسليم الضمني وغير المباشر لحكمة القضاء والقدر والاعتراف بالتسليم لحمكه وقضائه بطريقة شعرية جميلة وأسلوب تعبيري أقرب للمناجاة الوجدانية.


// يَا نَفْسُ صَبْرًا لِلنَّوَى لَا تَقْلَقِي
وَإِنِ اجْتَبَاكِ الْمَوْجُ عِشْقًا فَاغْرَقِي

إِنَّ الْحَيَاةَ هِيَ الْغَرَامُ وَإِنَّمَا
قَدْ شَاءَ رَبُّكِ أَنْ خُلِقْتِ لِتَعْشَقِي

وَإِذَا الْأَحِبَّةُ لَمْ يَعُدْ فِي وُدِّهِمْ
حَالٌ يَدُومُ وَفَارَقُوكِ تَرَفَّقِي

فَلَعَلَّ أَيَّامَ النَّوَى أَنْ تَنْجَلِي
وَلَعَلَّ يَرْحَمُكِ الزَّمَانُ لِتَلْتَقِي

وَإِنِ الصَّبَابَةُ أَحْرَقَتْكِ بِنَارِهَا
نَارُ الصَّبَابَةِ مَنْ تَضُمَّهُ يَرْتَقِي

وَإِذَا الَّذِي تَهْوَيْنَ جَاءَكِ مَرَّةً
كَيْ تَلْتَقِيهِ فَعِنْدَ ذَاكِ تَحَقَّقِي

هَلْ شَفَّكِ التَّهْيَامُ مِنْ لَثْمِ الْجَوَى
بَعْدَ النَّوَى وَلَمَى الْغَزَالِ الْمُشْفِقِ

أَمْ شَفَّكِ التَّهْيَامُ مِنْ خَدٍّ بَدَا
أَمْ قَدْ سُبِيتِ بِجِيدِ ظَبْيٍ مُشْرِقِ

ذَاكَ الْقَوَامُ وَقَدْ تَمَايَلَ وَانْثَنَى
تِلْكَ الْعُيُونُ وَقَدْ دَعَتْكِ لِتُحْرَقِي

وَجْهُ وُجُوهِ الْحُسْنِ تجْمَعُ عِنْدَهُ
وَالشَّعْرُ شِعْرُ اللَّيْلِ حَالَ تَعَشُّقِ

إِنْ سَارَ صَارَ الْقَلْبُ يَتْبَعُ خَطْوَهُ
وَالْعَقْلُ يَنْظُرُ فِي ذُهُولِ الْأَحْمَقِ

الْفِكْرُ مَا فَكَّرْتَ أَنَّهُ إِنْ رَأَى
ذَاكَ الْجَمَالَ أَزَاحَ سِتْرَ الْمَنْطِقِ

لَمْ تَعْرِفِ الْأَجْسَامُ فِتْنَةَ جِسْمِهِ
كَلَّا وَلَا سِحْرٌ كَهَذَا الرَّوْنَقِ

فَرِيَاضُ جَنَّاتٍ وَوَاحَةُ عَاشِقٍ
وَنَمِيرُ ظَمْآنٍ وَهَدْأَةُ مُطْرِقِ

وَسُكُونُ أَوْجَاعٍ وَنَشْوَةُ مُغْرَمٍ
وَنَشِيجُ أَشْجَانٍ وَنَفْحَةُ مُغْدِقِ

هَذَا أَنَا يَا نَفْسُ رُوحٌ هَائِمٌ
شَدَّ الرِّحَالَ إِلَيْهِ شَدَّ الْأَيْنُقِ

التِّيهُ فِي الْبَيْدَاءِ تِيهٌ مُتْلِفٌ
وَالتِّيهُ فِي الْعَيْنَيْنِ تِيهُ الْمُطْلَقِ //

جاءت القصيدة بلغة شعرية واضحة وصور رمزية موحية لا تحتاج إلى تفكيك بل إلى تأمل ناعم واستشفاف مطمئن وإفادة ميسَّرة.


هذه هي نماذج وأمثلة عن “الصور الشعرية” القوية والمميزة التي تُجسد تجارب الشاعر ومشاعره الداخلية والخارجية بشكل مؤثر وحيوي. فقد كانت أداة أساسية استخدمها الشاعر للتعبير عن أفكاره ورؤيته للعالم، وساعدت المتلقي على فهم الموقف الشعري والتفاعل معه. وتميزت بـ تجسيد المعاني المجردة، وبناء إيقاع خاص بالقصيدة، وتركيز على المشاعر الداخلية.
فجسدت المعنى المجرد حيناً بطرق حسية ومقنعة، ما يجعلها أكثر وضوحًا وتأثيرًا للقارئ.
وكانت في موضع آخر وسيلة تعبيرية اعتمدت على الخيال لتمثيل مشاعر الشاعر وأحاسيسه الداخلية بأسلوب جميل وقوي.
إضافة لكونها وظيفية تأثيرية تسعى إلى إقناع المتلقي بموقف الشاعر أو أفكاره، وتجعله يتفاعل مع النص. وذلك باعتمادها على عناصر تكوينية احتوت عناصر تركيبية ونحوية وإيقاعية ولفظية ومرئية، ما خلق إيقاعًا خاصًا بالقصيدة. مرتكزة على تجربة الشاعر ومستمدة فعاليتها من خياله ومشاعره ، ناقلة الواقع إلى القارئ بطريقة بيانية.
والشاعر مازن الشريف جسد بشعره كل أنواع الصور الشعرية من حسية اعتمدت على الحواس (السمع، الشم، الذوق، اللمس) لتجسيد المعنى إلى عقلية اعتمدت على التفكير والمنطق في تشكيل المعنى إلى إيحائية استخدمت الرموز والدلالات الموحية، إلى نقلية نقلت شيئًا أو حدثًا من الواقع بشكل مباشر وغير مباشر، إلى صور جمالية وجلالية وجوهرية وغيبية وقدرية وتساؤلية وفلسفية وتجريدية وصور خاصة به وماركة مسجلة باسمه من فوق سدرة المعراج..
إضافة لاستخدام الصورة الفوتوغرافية وإرفاقها مع كل قصيدة وتحويلها إلى غنائية؛ أغنية من قصيدة سيمفونية فيها الموسيقى واللحن والكلمة والصوت والغناء، فتكتمل المشهدية وتزيد الجمال معنى ببيان سورة إعجازية، فيسرح بها المتلقي ويسافر رحلة كونية بعالم الفن والخيال.
-باختصار، تُعتبر الصور الشعرية جزءًا لا يتجزأ من بناء الشعر، وهي أساسية للتعبير الفني عن المشاعر والتجارب، وتعتمد على الخيال لتقديم المعاني بشكل مؤثر وجميل، مما يسمح للشعراء بترك بصمتهم الفريدة في أعمالهم الأدبية.

نعم هو الشاعر… الذي يمتلك أدوات شعره يرقى لمصافي الخالقين المخلقين المبدعين. أليس الله تبارك وتعالى أحسن الخالقين؟
هذا هو مازن الشريف خالق مبدع في فنه وتصويره يجسد الذوق والمعنى يخلق الفكرة يبتكر الكلمة يرقى باللغة يستحضر الموسيقى من عالم السماء ليزين بها أخاديد الكلمات… من عسل روحه ومن قطاف وروده يهبنا حللاً من أزهار القصائد يعنقها شريط العنوان الأزهى..
علمنا المعلم مازن الشريف بجمالية لغته أننا حين نكتب له نأخذ من سجعه وشيئاً من بريق حبره فيمسنا منه صاعق يأتي بالبيان سحرا.. فكأننا تكملة لهذا المنشد المغنى بل ربما كورال نردد وراءه في سيمفونيته الشعرية فنهيم ونطرب… ونثمل ونسكر ونخترق المبنى.. فنمسك بما سيق لنا وما عليه قدرنا.

– ودخولنا في دراسة نصوص شعر الباحث الخبير مازن الشريف كدخول بلقيس التي رفعت ثوبها وظنت أن تحتها ماءً.. فما كان عند سليمان أبهى من حضارتها وأرقى!
وما لمسناه عند الشاعر الذي يجب أن نطلق عليه سلطان الشعر الحديث مازن الشريف من حضارة جمالية وجلالية.. سماوية وأرضية بعالم الفكر والحجب والخيال وتجسيد الواقع … شيء يتخطّى المألوف ويدخلك عوالم السحر والنور، بل يذهب بك لأبعد من مدى.. وأرق من ندى.
فما أتى به ليس سدى.هو شعر.. هو جلال.. هو جمال في اللغة، اهتدى وهدى.. إلى جلّ الصورة.. وجوهر رقي النُّهى.

منشورات ذات صلة

الروحانية في شعر الدكتور مازن الشريف

يا مهجة الروح ما في الناس من أحدٍ.. أفضى إلى العشق إلا… شاهد المزيد

بواسطة رجاء شعبان
22 أكتوبر، 2025
الخفة والظرافة في غزل الشاعر مازن الشريف

الغزل بالعموم هو التغنّي بالجمال، وإظهار الشوق إليه، والشكوى من فراقه، والغزل… شاهد المزيد

بواسطة رجاء شعبان
16 أكتوبر، 2025
قراءة في شعر الدكتور مازن الشريف

قصيدة : “ألا طال هذا الليل” نموذجاً نُشرت في الآونة الأخيرة قصائد… شاهد المزيد

بواسطة رجاء شعبان
29 سبتمبر، 2025
كيف رأى الفلاسفة والعظماء الموسيقى…وكيف قدّمها لنا المعلّم والمفكرّ مازن الشريف

يقول الإمام الشيخ أبو حامد الغزالي: «من لم يحرّكه الربيعُ وأزهاره، والعودُ… شاهد المزيد

بواسطة رجاء شعبان
29 أغسطس، 2024
رواية المعلم والتنين المشهد الخامس عشر: سَفَرْدايِمْ

حين مات الملك الشيطان كما كان يسميه شعبه: سفاريم، وأثناء جنازته، لما… شاهد المزيد

25 ديسمبر، 2022