نُشرت في الآونة الأخيرة قصائد غزيرة للدكتور الشاعر مازن الشريف في الشعر، وخصص منها معارضات لروائع القصائد، فكان كالنهر العذب المتدفق الذي فاض في القلوب نبضاً فأحيا مجراها الظامئ المشتاق للارتواء، وجاءت قصائده كجداول عذبة منسابة وأنهار من ينابيع الجنة! إذ كل قصيدة تفوق سابقتها جمالاً وجلالاً، معيداً لنا ذكرى شعراء مروا قد لا نعرفهم، لكنه عرّفنا بهم، ومتفاعلاً مع قصائدهم تفاعل العاشق الولهان لروح القصيدة وسكرها وخمرها وفكرها واشتعالها بالشعر.. ما نُشر كان لافتاً جداً في أدب المعارضات وفي رسم خريطة جديدة للشعر تستذكر زمن الأصالة والفروسية عند العرب والشعراء، وتستحدث الشعر نقياً صافياً مُستَخلَصاً من جمال الشعور وعظمة المَلَكة الشعرية لديه. وأحببنا هنا أن نشاركه روعة الإحساس بهذه المعاني المنجلية المتجلية على يديه كفيض من السماء ونشكره على هذا الذوق الرفيع وحسن الأسلوب التعبيري المفهوم الرقراق في زمن وعصر يعجّ بمعاني الضجيج من الشعر والمفردات الفوضوية القلقة التي لا تثبت عند معنى جميل إلا لتقتله في الضربة التي تليها، كأمواج متلاطمة في بحر أهوج تلعب به الريح… ويغيب القبطان عن السفينة…
-لن نقدر أن ندرس الشعر كله عند هذا الشاعر الغزير والعظيم، لكن سنعطي نموذجاً بمحاولة قراءة تمعّنيّة ذوقية مما لمسناه وأحسسنا به ووصل إلينا، من دون دراسة أكاديمية معمّقة ومحترفة، فللشعر أهله، ولكن هنا نموذج دراسة قارئ يحب الشعر، ومن قصيدة ربما نعطي فكرة عامة عن نوعية وخصوصية الشعر عند هذا الشاعر الذي ظهر في وقت قلنا فيه: ألا من شاعر همام يحلّ مكان الشعراء الكبار؟ ألا من يملأ الفراغ ويأتي بجديد؟! فانبرى هذا الفارس بكل شجاعة عنترة وحكمة المتنبي وحساسية أبو فراس وعشق قيس بن الملوح وصوفية جلال الدين الرومي ووحدوية رابعة العدوية.. جاء بنفحات كل من سبق وكتب نبضاً وقصيدة وعبارة وهمس بلحن الموشحات وغناء أجمل موسيقى الروح والوجدان.
إذاً هذه نموذج دراسة من خلال قراءة في قصيدة : ألا طال هذا الليل
التي هي معارضة للقسم الغزلي من رائعة المتنبي وَفاؤُكُما كَالرَبعِ أَشجاهُ طاسِمُهْ بِأَن تُسعِدا وَالدَمعُ أَشفاهُ ساجِمُهْ والتي مدح بها سيف الدولة مستهلا بالطلل والغزل. وهي من أعظم ما قيل في الشعر. كما ذكر الشاعر مازن الشريف ذلك، وقد اختار بعض الأبيات وضمنها في قصيدته.
… القصيدة …
اَلا طالَ هذا اللَّيلُ واعتَلَّ قائِمُهْ وَهَبَّت على صَدرِ العَليلِ نَسائِمُهْ
نجد مفردات القصيدة قلّما ورد فيها كلمات صعبة وغير مفهومة " ألا طال هذا الليل" من دون الخروج عن عمق المعاني والمألوف، ومع الإيتاء بالشاعري المتجدد " هبّت على صدر العليل نسائمه"، "وصار الكرى ينأى كنأي نهاره"، كاستبدال كلمة المريض بالعليل والكرى عن النعاس.
الألفاظ العذبة الانسيابية:
وأَبيتُ حَيرَانَ الخَواطِرِ مُثخَنًا بِصَدرٍ شَديدِ الحُزنِ بلْ هو دائِمُهْ
جاءت الكلمات في الجمل والعبارات عذبة منسابة كنهر مسترسل القطرات يمشي بهدوء ورقرقة هادئة،" أبيت حيران الخواطر" مع الحفاظ على فخامة اللفظ، فاستبدل مثلاً "مثخناً" كمعنى للجراح الغليظة لتؤدي الغرض وتوصل المعنى وتختزل.
وإني لَدى التِّذكارِ عِندَ خِيامِهِمْ رَضيعٌ ولم تُنزَعْ عَلَيهِ تَمائِمُهْ
استخدم الشاعر مفردات وصور تنمّ عن التأثر بتراث الأجداد مثل كلمة "عرصات وتعني الساحة الواسعة"، خيام، تمائم وتعني التعاويذ" وهذا إن دلّ على شيء فعلى الأصالة يدل والتأثر بالماضي المكاني والتراثي عبر اللغة، فكلمة العرصات وخيام وتمائم قلما نستخدمها في عصرنا لتبدل حالها.
نجد الشاعر هنا تخطى الشعراء بالجرأة المحمودة باعترافه بالهزيمة أمام الحبيب على عكس ما يواربون به ويوارونه الفوارس من الأبطال الشعراء، وهذه شيماء وقوة أخرى تضاف للقصيدة وتهزم بجماله شاعره وقصيدته التي يعارضه بها. الشاعرمازن الشريف أضاف من لطف المودة والشاعرية حيث الانهزام أمام الحبيب، فما زاده ذلك إلا قوة في النفس والتغلب على ضعفها بتوصيفها ذاك الوصف النبيل والجميل له ولحبيبته.
صدق المشاعر هنا والصورة الحقيقية في تصويرها من خلال استخدام عبارة "يخنقه الأسى" واضحة وجلية عن كمية الحزن والحال الذي وصل إليه الشاعر، حيث ذهب إلى أبعد حد في التعبير عن المكنونات كبحر ينثر موجه عبر شطه وقد أخرجها آهات مع كل تنفس بحر في موجة. والاعتراف بأن هذا الوضع لا يلائمه اعتراف صريح وصحيح كمن يعرف جرحه ويلتئمه بنفسه أو يطلب ترميمه " بعد الذي يهواه لا يلائمه"
الصور القويّة والجزالة:
والشَّوقُ كَاللَّيثِ الهَزَبرِ إذا ارتمى قد ماتَ مَن وَقَفَتْ عَلَيهِ قَوائِمُهْ
نَادَيتُ عِندَ الظَّعنِ ظاعِنَةَ الظِّبا والحُبُّ ناحَتْ في الفُؤادِ حَمائِمُهْ
لكي يوصل المعنى بدقته يأتي الشاعر بصور غير مطروقة مسبقاً، ليست مكرورة في الوصف، فهذه الصورة للشوق وتشبيهه بالأسد الضرغام القوي الذي لا تقوم قائمة بعده إذا ارتمى على شيء أو ارتمى أمامه شيء، وهو حال الشوق القوي الذي لا يبقي ولا يذر إن وقفت له قائمة وانهال مرتمياً ومعتملاً في الحال، وهذا من فخامة الصور وجزالة الألفاظ.
الألفاظ الرقيقة:
" ناديت عند الظعن ظاعنة الظبا " والحب ناحت في الفؤاد حمائمه"
فإن كان هذا البيت للشاعر المتنبي الذي يبني الشاعر مازن الشريف قصيدته المعارضة عليها، فقد جاراه بما لا يدع مجال للشك في وحدة القصيدة وجرى وإياه بكل تناغم الألفاظ والتماهى بالبيئة المكانية والزمانية الوصفية فوصل لمستوى الحال الشعرية. وهذا البيت الذي قاله المتنبي:
نجد الشاعر الشريف انطلق منه متابعاً كأنه ذات الشاعر دون الشعور بخلل أو تغيير الحرف والنمط، وإن كانت هذه من قواعد المعارضة فليست دائماً يمكن لها أن يُكتب لها النجاح ، لكنها نجحت هنا وجاءت واحدة مكتملة، كأن الشاعرَين أصبحا ذاتاً واحدة، خطّا من حبر وقلم واحد، رغم تباعد الزمن، وهذا دليل التمكن والإتقان، فيكمل الشريف في وصف الحبيب الذي قال فيه المتنبي بأن الحسن أحبه:
ومعاني أخرى ما كانت لتخطر على البال متجاوزاً الشعراء بالفكرة، مبتدعاً واصفاً هذا الحبيب بعد سمة الحسن بالضحوك الفتيّ المشرق الوجه الراضي و العنيد والحيي وبأنه ناعس الجفن يسبي بنظرته من ينظر إليه. فوَصْف الحبيب بالعناد والحياء تضاد وتطابق معنوي رائع بالمعنى الجميل.. هذا الحبيب الثابت على موقفه مع حيائه وجفنه الناعس الذي يقتل عاشقه.
"كغَريقٍ يَمٍّ والرِّياحُ تُلاطِمُهْ" صورة غريق البحر والرياح تتلاعب به صورة بلاغية قوية، الغرق لوحده مشهد قاسي فكيف والريح تضرب به؟ وحال وصف الغصن الذي تمزقت براعمه من وجع الفؤاد "غُصنًا تُمَزَّقُ بالغَرامِ بَراعِمُهْ"
لكنه الحبيب الذي يكون ختام الوجد على يديه فهو يستحق هذا الوصف والتعبير وهو الصفي الذي أودى خله في مرامي الغرام ويخاف أن يفقده ويبحث عنه بحث الذي أضاع آخر ما لديه متماهياً مع خوف المتنبي ودقة وصفه وخوفه على فقدان حبيبه.
الاسترسال :
مَن كانَ يَقدِرُ أن يُميتَ تَبَسُّمَا هل مِن مُحِبٍّ في الوَرى هوَ راحِمُهْ
المتنبي استرسل بقصيدته ووارب بين وصف الحبيب ووصف سيف الدولة والتغني بالذات، في حين أن الشريف اختصر واختزل واقتصر على وصف الحبيب والتغني بمحاسنه دون الفخر بالذات أو مخاطبة سوى الحبيب.
النصيحة وأدب الحكمة:
ولا تَعجَليني في الوِصالِ فإنَّما قَد أَتلَفَ الإحساسَ تَيمٌ يُلازِمُهْ
فللعَينِ أن تُدنِي ولِلَّحظِ أن يَرى ولِلقَلبِ أن يَختارَ ما هوَ رائِمُهْ
ولِلجِسمِ أن تَأتيهِ باللَّمسِ مُقلَتَا شَغوفٍ لَهوفٍ نازِفِ الكَفِّ عاكِمُهْ
حقيقة مرّة لكن الحكمة لذيذة:
فالشاعر ما زال لطيفاً مهذباً يحاول إيصال الفكرة لحبيبته بكل تروي وحنان عابق بالحكمة والخبرة والمحبة. علّ هذه الحبيبة إن فهمت تعذر وتقف إلى جانب محبوبها من دون لوم أو ندامة، إن خاطبها بنداء الود والوصف الحسن المستعطف،فتنهزم قساوة الحياة أمام تفهمها ولطف التعامل معها وتتذوق حلاوةً حتى من جوف مرارتها.
وحَقِّكِ ما في النَّفسِ يا ظَبيَةَ الرُّبى سِوى حَسرَةٍ أزرَت بِقَلبٍ تُنادِمُهْ
فما استعذَبَتْ نَفسي اللِّقاءَ وبعدَهُ حِمامُ فِراقٍ لا تَرقُّ مَحاكِمُهْ
"وَما اِستَغرَبَتْ عَيني فِراقًا رَأَيتُهُ ولا عَلَّمَتني غَيرَ ما القَلبُ عالِمُهْ" …….. هذه القصيدة كانت من البحر الطويل.. وجدنا النَفس الطويل والبعد في النظر… والفخامة في الرحلة والإبحار.. والتمكن من الإمساك جيداً بدفة القيادة، بفنية عالية وبإسلوب سلس سهل واعٍ، فإن كان القبطان سيد الشعراء في زمانه، لحق به لقب النبوّة بالشعر، أتى فارس العصر في هذا الزمان ينازله في الشعر منارلة الفرسان ، إنها لوحة تجدد نبوءة الشعر بنبوءة أجمل وأطهر… وهذا ما كان الحال بالقصيدة للشاعر المتنبي والشاعر الشريف، وقد يكون لقب الشريف بالشعر أجلّ وأطهر مما لاشك به… مما لحق بالشعر من لوثات، فيتطهر الشعراء من الغواية ومن اتباع الغاوين لهم، ويعود الشعر لأصله من الإيمان والذين آمنوا بعمق الكلمة وعرفوا قيمتها وكانوا ولاتها