الروحانية في شعر الدكتور مازن الشريف

بواسطة رجاء شعبان
22 أكتوبر، 2025

يا مهجة الروح ما في الناس من أحدٍ.. أفضى إلى العشق إلا مات ظمآنا
يحبك الحب يا أحلى النساء وما.. أرضى إلى الصّبّ أن يلقاك سكرانا
يا خمرة العشق يا سُكراً ويا طرباً.. أشجى أخا الوجد أنغاماً وألحانا

الروحانية في شعر الدكتور مازن الشريف

برزت شخصية الشاعر على أصولها وتفرعاتها وبكامل عمقها وأصالتها في شخصية الدكتور مازن الشريف، إذ أصبح شبه متفرّغ لكتابة الشعر وتمحيص القصائد ومناظرة الشعراء على مختلف العصور ومعارضة روائع القصائد، فكان فناً لكل الفنون بالنظم من مختلف أنواع الشعر وبكل ألوانه الحسّي والمعنوي من الغزل العفيف العذري إلى العذري الحسي الذي يصف مفاتن المحبوب ويتشبب بالمعاني ويتغنى بالشكل وصولاً إلى الصوفي الصافي الذي جلا عن كل حس إلى ما بعد الرمز فتجلى عبر اللفظة…
للشعر عوالم وبحور كما لغيره من الآداب والفنون من العلم والقواعد والفنون…
وإن كان الشعر ديوان العرب فهو يغدو الحافظة والتاريخ بمكان ما لعادات وتقاليد وأصول العيش وأخبار المعارك والحروب وصفات الأنفس والشخصيات…
الشعر هو ذاك الآخر، الباطني للإنسان كالليل من النهار يعبر عن اللواعج ويكشف بواطن العاطفة ويظهر حلل الشعور ويضيء زوايا الحسّ والمعدن من الصفات..
الشعرتجلّي المعنى بِحلّة ظاهرية تقرّبنا منه وتفهمنا إيّاه بلغة الجمال، فإن كان الجلال معنى فالجمال شكله الذي يبديه…

وعلى رأي الكاتب والشاعر مازن الشريف حين يقول:
حين نكتب فإننا نمارس فعلاً فريداً..يجمع بين الوجدان وإمكانات الروح ورغبات الجسد وآلامه وعصارة التجربة ومخزون الذاكرة وإمكانات اللغة التي نحاول كل مرة توسيع مداها…والشعر من أجلّ وأجمل أفعال الكتابة…

والشاعر مازن الشريف الذي بدا وقد أحاط بكل معاني الشعر وقوافله ورواحله وقبائله ومواطنه .. وانغمس فيه منذ الطفولة ورافقه مع شخصية المحارب التي نمت فَغذّتْ الشاعر بقوة من نوع آخر وسار الشاعر إلى جانب المحارب يكبران وينضجان ويصنعان فارساً عربياً مذهلاً في زمن يتخلّى فيه العالم عن هذا ويتجه إلى الزيف واستبدال الآلة والمصنوع منه… لكن بهذا العلم الوافر والنضوج الراسخ طوّع المعلم والشاعر مازن الشريف أدوات عصره لتخدم أصول تاريخه وعصوره وتسترجعهما ذاك الاسترجاع الجميل والآمن… فكان إضافةً أخرى، دبّ الوجدان في الآلي الاصطناعي وحاوره وشاركه وفعّل ماعنده بروح تشاركية أنطقها علماً ومغزى…
وهنا نركز قليلاً على جانب واحد من جوانب الشعر لديه، جانب الروحانية الخاص في شعر هذا المفكر والمؤرخ والخبير والباحث والصوفي العالم الكبير مازن الشريف.

فما هي الروحانية في الشعر؟

الروحانية في الشعر هي العلاقة العميقة التي تربط بين الشعر والتجربة الروحية والبحث عن المعنى، وتشمل التعبير عن مشاعر الحب الإلهي، والتأمل، والتصوف، والاتصال بعالم ما وراء الطبيعة.
وتُعتبر الروحانية رافداً قوياً للإلهام الشعري، حيث يتجاوز الشعر الحدود الدينية ليخاطب لغة الروح العالمية المشتركة، مستخدماً الرموز لإيصال المعاني الوجدانية والروحية العميقة.

أوجه العلاقة بين الشعر والروحانية:

تجربة البحث والمعنى: يعكس الشعر الروحي البحث عن المعنى الداخلي والإلهي والتنوير، حيث يحاول الشاعر الوصول إلى جوهر الكون وتجربة حقائق ما وراء العقل.

وسيلة للتعبير: الشعر هو وسيلة الشعراء للتعبير عن تجاربهم الروحية العميقة، خاصة عندما تكون هناك أشياء لا يمكن وصفها باللغة العادية، كما في حالة القصيدة الصوفية.

لغة الرمز والإيحاء: تستخدم الروحانية في الشعر لغة الرمز والإيحاء، لأنها تتجاوز اللغة الحرفية، مما يمنح الشعر عمقاً وغموضاً يهدف إلى إثارة الوعي الروحي لدى القارئ.

التقارب بين الصوفية والشعر: هناك تقارب كبير بين اللغة الصوفية ولغة الشعر، حيث تتقاسم التجربتان استخدام الإيجاز والرمز والإيحاء، مما يجعل النصوص الصوفية قريبة من الشعر.

بين الشاعر والموصوف:

نبدأ موضوعنا بقصيدة للشاعر اسمها: سيد السادات.
وهذه قصيدة سيد السادات تعبير واضح وخطاب مباشر في الشعر لسيد الرّوح والحضرة العليّة في الشعر، سيدنا محمد (ص)، حبيبها ووسيلتها ومفتاح الوصول إليها.

- فالواصل بين السماء والأرض سيدنا محمد والشفيع لنا والرحمة هو سيدنا محمد، الذي كان يلتقيه الوحي دائماً وجاءه بالقرآن يُقرؤه لنا ويعلمنا أصول الشريعة و الدين ويفهمنا أساسيات العقيدة و الأدب والفكر والسلوك في كل مناحي الحياة.

- النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو نبراس الحق وبصيرة المعنى، به نعرف كيف نتعرف على ربٍّ كريم عظيم.. باب العرش، عرش ربّ الله العظيم، خاتم النبيين جمع في رسالته كل الديانات بعد أن نقاها من بعض ما علق بها من تلاعب أوكذب و تزييف، ولم ينكرها أو يلغيها، شأنها شأن الأخلاق التي حافظ على الجميل منها كالمروءة والكرم والشهامة، وألغى الخاطئ الباغي كوأد البنات والبغي وتجارة العبيد وسواها..

- جاء نبي الله محمد ليجمع الرسالات ولا يشتت، وليقوم بتأييد وخدمة مَن سبقه من الرسل لا ليلغي.. جاء هدية الخالق للخلق، نبياً أميناً صادقاً لبارئه. فلا دين للعارفين من دون محمد ولا شعر للشعراء الحقيقيين من دون محمد، كيف لا وهو رأس المحبة والرحمة والإيمان؟! قدوتنا الأصل وإمامنا وإمام الأئمة؟ إمام الأولياء والصالحين والصادقين .. إمام العلماء والأتقياء والأنقياء.. إمام البسطاء وشفيع المظلومين المكلومين.. الهادي إلى صراط مستقيم.. معه لا يضيع خلق ولا علم ولا دين.. مرآة الألوهية الصادقة وتجلي الجمال والجلال الإلهي… فكيف لا يمدحه العارفون ولا يتغزل بحضرته الشعراء.. كيف لا يكون حبر القصائد المصطفاة، وكيف لا يكون سيد السادات وخاصة عند من عرفه بقلبه وجلاه ببصرته.. يأخذ من أنواره ويختص بأسراره ويحاكي صفاته ويشهد على رقي مكانته وهدايته: أهل بيته الأجلاء الأطهار الأوفياء.. بوح الدين النقي وأهل الودّ والصفاء..

- وكيف لا يختصه الشاعر مازن الشريف بجليل وجميل أشعاره وهو الحبيب القريب المقرب منه، شاعره، وسليله، وارثه بالمحبة وأمينه على علمه وحارسه في دينه..! مَن عرّفنا إلى جميل صفاته بروعة وصفه وكثير ذكره وعظيم استحضاره.

- مازن الشريف الآن هو الحامي لدياره وأهل بيته ومن المعتكفين في جواره، وهذه القصيدة تعبر عن مكنونات الشاعر ولواعجه برجاء القرب منه ورؤيته، فللشعراء حالات.. وللصوفية أحوال ولقاءات.. وللأولياء تجليات. وأبيات القصيدة تجلعنا ندرك معه بعض الخلجات، ونعرف عن نبينا دقيق الصفات، فهي لسيدنا كلنا، سيد السادات.

- بلى، هو الروح الأعظم وقد اقتبس منه الشاعر روحانية الحرف والمعنى والكلمة فالقصيدة تختصر بسلاسة كلماتها وعبق حروفها وانسيابية جملها وعذوبة سرديّتها العلاقة والسر بين الشاعر والنبي الموصوف، مع شديد الاعتذار لأنه كل ما يمكن أن يقال لا يوفي حق الموصوف وقد علت قيمته كل الكائنات.

- يقول الشاعر في قصيدته يا سيد السادات:
إلى حضرته العظيمة مع شديد الاعتذار.

-يا سَيِّدَ السّاداتِ يَا خَيْرَ الوَرى.. دَعْنِي أُرَاكُمْ سَيِّدِي حَتَّى أَرَى
-فَإِذَا رَأَتْكُمْ مُقْلَتِي يَا فَرْحَتِي.. سِرِّي سَرَى مِنْ سِرِّكُمْ سِرِّي سَرَى
-أَنَا فِي عَذَابِ الحُبِّ قَلْبٌ هَائِمٌ.. أَنَا فِي لَهِيبِ الهَجْرِ لَا أَجِدُ القِرَى
-صَلَّى عَلَيْكَ اللهُ يَا عَلَمَ الهُدَى.. يَا تَالِيَ القُرْآنِ فِي أُمِّ القُرَى
-يَا سَيِّدِي وَمُؤَيِّدِي هَلْ سَيِّدِي.. يَرْضَى لِوَلْهَانِ المَحَبَّةِ مَا جَرَى
-اللهُ هَذَا الحُبُّ أَسْكَرَ مُهْجَتِي.. اللهُ هَذَا الحُسْنُ حَيَّرَ مَنْ يَرَى
-فَإِذَا العُيُونُ رَأَتْكَ أَبْهَرَهَا السَّنَا.. وَإِذَا الجَمَالُ رَآكَ قَامَ مُكَبِّرَا
-اللهُ أَكْبَرُ يَا كَرِيمًا كَامِلًا.. اللهُ أَكْبَرُ يَا جَمَالًا مُسْكِرَا
-أَنَا لَا أَنَامُ اللَّيْلَ مُنْذُ عَرَفْتُكُمْ.. فَالعَاشِقُ الوَلْهَانُ قَدْ هَجَرَ الكَرَى
-رُوحِي لَدَيْكُمْ سَيِّدِي فِي بَرْزَخٍ.. وَالجِسْمُ يَنْزِفُ مُثْقَلًا بِيَدِ الثَّرَى
-وَأَنَا إِلَيْكُمْ عَازِمٌ فِي لَيْلَةٍ.. فِيهَا اكْتِمَالُ الحَالِ أَعْبُرُ أبحرا

- السيد الشاعر مازن الشريف هذا الشيخ الصوفي نجده يجدد خطابه لسيد البيان بشعره، يستفيض بذكر من جاء بالقرآن ويسترجع هذا النبض بلفظه واقتباسه من قبسٍ وفكرٍ وذكرٍ لغوي واستذكارٍ قرآني تلقائي مبدع، وبديع من جميل حدائق السور وروض الآيات بنبعٍ مزيج ونبتٍ جديد بهيج.


" يَا سَيِّدَ السّاداتِ يَا خَيْرَ الوَرى.. دَعْنِي أُرَاكُمْ سَيِّدِي حَتَّى أَرَى "

- خير الخلق:

فالشاعر يطلب من سيده وقد ناداه بسيد السادات بعد أن أوضح قيمته وعظيم شأنه بأنه خير الخلق على الإطلاق، يطلب منه بأسلوب استجدائي محبب أقرب للغة التقارب الطلبي قائلاًِ بما معناه: دعني يا سيدى أراكم بعين بصيرتي، رؤية المشتاق لعالم التجلي والكشف، فإذا رأيتكم أكون بحق قد رأيت ، فأنتم نور العين وقلب البصيرة التي ترى مالا يرى، فمن دونكم أنا لا أرى.

" فَإِذَا رَأَتْكُمْ مُقْلَتِي يَا فَرْحَتِي.. سِرِّي سَرَى مِنْ سِرِّكُمْ سِرِّي سَرَى "

-فرحة الرؤية:

-فإذا عيني رأتكم فيا فرحتي بهذه الرؤية، فحينها سرّي يتجلى و يسري، محدثاً لي تواجداً وقيمة، يا مفتاح السر الإدراك والوجود.

" أَنَا فِي عَذَابِ الحُبِّ قَلْبٌ هَائِمٌ.. أَنَا فِي لَهِيبِ الهَجْرِ لَا أَجِدُ القِرَى "

- المعاناة في الهجر:

- أبقى بحبكم قلباً هائماً يهيم في مدارات عذاب الحب، ويبقى قلبي ظمآن في لهيب الفرقة والهجر.
-
" صَلَّى عَلَيْكَ اللهُ يَا عَلَمَ الهُدَى.. يَا تَالِيَ القُرْآنِ فِي أُمِّ القُرَى "

- مكانة النبي:

رفع الله مقامك أيها النبي وقربك منه يا تاج الهدى ورايته، يا من تلوت القرآن وقرأته في منطقة أم القرى فانتشر النور منها إلى جميع الأمصار والقرى.

" يا سَيِّدِي وَمُؤَيِّدِي هَلْ سَيِّدِي.. يَرْضَى لِوَلْهَانِ المَحَبَّةِ مَا جَرَى"

- تولّه ومناجاة:

هل ترضى يا سيدي ويا سندي ومؤيدي ما جرى لي من وَلَه المحبة وألم الهجران؟

" اللهُ هَذَا الحُبُّ أَسْكَرَ مُهْجَتِي.. اللهُ هَذَا الحُسْنُ حَيَّرَ مَنْ يَرَى"

-أثر المحبة في النفس:

الله من هذا الحب الذي أسكر روحي! وهذا الحسن - حسنكم" قد حيرني و أوقع كل من رآه بالذهول.

" فَإِذَا العُيُونُ رَأَتْكَ أَبْهَرَهَا السَّنَا.. وَإِذَا الجَمَالُ رَآكَ قَامَ مُكَبِّرَا "

- تأثير هذا الجمال النبوي:
-
العيون التي تراك تنبهر من شدة رفعتك وسموك وسناك، والجمال ذاته يقوم ليكبّر الله.

" اللهُ أَكْبَرُ يَا كَرِيمًا كَامِلًا.. اللهُ أَكْبَرُ يَا جَمَالًا مُسْكِرَا"

- المقام الكامل:
-
نتعجب باسم الله الكبير من جلّ جلالكم ونكبر الله بك أيها الكريم من جميل كمالكم وجمالكم الكامل والآخذ بالعقول.

" أنَا لَا أَنَامُ اللَّيْلَ مُنْذُ عَرَفْتُكُمْ.. فَالعَاشِقُ الوَلْهَانُ قَدْ هَجَرَ الكَرَى "

-سهر العاشق:

منذ عرفتكم هجرني النوم فالعاشق الذي ذهل بكم يقضي الليل سهراناً ولهاناً لا يقدر على مفارقة الاستئناس بوجودكم ولا يحبذ الغفلة عنكم.

" رُوحِي لَدَيْكُمْ سَيِّدِي فِي بَرْزَخٍ.. وَالجِسْمُ يَنْزِفُ مُثْقَلًا بِيَدِ الثَّرَى "

- في برزخ الأرواح:

الروح معكم في برزخ الأرواح ولو كان الجسم مازال في هذا الطين ينزف الجراح.

" وَأَنَا إِلَيْكُمْ عَازِمٌ فِي لَيْلَةٍ.. فِيهَا اكْتِمَالُ الحَالِ أَعْبُرُ أَبْحُرَا "

- ليلة الاكتمال:
أشدّ العزم لأرحل إليكم وأعبر البحور، وحين أصل إليكم في ليلة وقد اكتمل فيها أمر حالي .

- هذا ما كان الحال مع سيد السادات وملك الروح في الروحانية والحالة الشعورية والوصفية وما مزج وعبّر بها الشاعر عن روحانية مطلقة وعالية.

الشعر والصوفية:

- وإن كان من أوجه العلاقة بين الشعر والروحانية: تجربة البحث والمعنى، ووسيلة التعبير، فإن الروحانية في الشعر كذلك تستخدم لغة الرمز والإيحاء، لأنها تتجاوز اللغة الحرفية، مما يمنح الشعر عمقاً وغموضاً يهدف إلى إثارة الوعي الروحي لدى القارئ.
ما يجعل هناك تقارب كبير بين الصوفية و لغة الشعر، حيث تتقاسم التجربتان استخدام الإيجاز والرمز والإيحاء، فتستخدم الصوفية الشعر للوصول إلى مبتغاها، وتتقاسمان توصيل المعنى.

- وفي قصيدة عندلة للشاعر خير مثال :
تقول بعض أبيات القصيدة :

-ميلي عليّ ولا تميلي إلى السّوى.. وإذا أتيتُ إلى الجواد فاقبلي

-إن اللمى خمر الغرام وإنني.. ربُّ الغرام بما يلذّ ويبتلي
وأعدّي لي عوداً يعيدُ سلافة.. من خمرة المعنى بعزفك واعدلي

-يا ذروة الحسن التي قد رمتها.. يا عشقي الأزلي قبل تصلصلي

-بكِ قد سكرتُ كأنّ حالك مسّني.. فمشيتُ خذلان الفؤاد لموئلي

-وأتيت داراً للنبي وآله.. بالباب فاطمة وحارسها علي

-كل الملائك الكرام تنزّلوا..
والروح ينزل بالكتاب المنزل

-هنا أصل تكويني ومكمن عزتي.. هنا أول البشرى بأطهر منزل

-بيت التقى والهدى بيت محمد.. في سابق الأيام أو في المُقبل

-ألا خيّب الله الذين قلوبهم.. كادت لآل البيا كيد التنقّل
أيصدُّ بُغضاً من أتاه مؤيداً.. نور من الرحمن لم يتبدل

- بعض الشرح:
-
"إن اللمي خمرُ الغرام وإنني.. ربّ الغرام بما يلذّ ويبتلي"

اقتباسات قرآنية:

-إن الشفاه السمراء المكتنزة هي خمر الغرام وإنني رب الغرام بما يأتي باللذة والابتلاء.
فعبارة ربّ الغرام وصفة الابتلاء يأتيان في سياق قرآني، وعبارة رب الغرام كالمقتبس من آيات وردت مثل: "قل أعوذ برب الناس"، "الحمد لله رب العالمين" وهكذا..

"وأعدّي لي عوداً يعيدُ سلافة.. من خمرة المعنى بعزفك واعدلي"

-الوصف الحسي والمعنوي:

أحضري لي يا محبوبتي عوداً واعزفي لي من المعنى ما يعيد الخمرة المعتّقة للحب وما يكون، وكوني منصفة واعدلي بالوصف بما يُطرب ويبرز مفاتن معناك .

-هنا الشاعر يمزج بين الوصف الحسي للوصول إلى خمر وجوهر المعنى، فكلاهما يتفاعلان ليوقدان جذوة الروح. وهذه جمالية بحد ذاتها عند الصوفية، الغزل والتغنى بمفاتن الأنثى الحسية والمقصود منها العبور للروح الجوهرية.

- الشاعر يركز على الخمرة ولكن أية خمرة؟ إنها خمرة المعنى، فمن يخاطب بهذه الطريقة؟ إلا الحالة الصوفية؟ فالمحبوب هو بعين وروح المعنى!

" يا ذروة الحسن التي قد رمتها.. يا عشقي الأزلي قبل تصلصلي"

-يا منتهى الجمال والحسن التي قد قصدتها، يا عشقي الأول قبل تشكلي في الطين.
-ونكاد لا نميز إن كان الشاعر يصف محبوبة من البشر أم الروح الكلية لديه، ولا ندري إن كان يصف الاثنتين معاً أو يتخذّ من الحسية المرئية مدخلاً لتلك اللطيفة المخفية.. لا ندري حقاً إن رأى الشمس وتغزل بها أم رأى روحها وجوهرها وأفقها ومشرقها ومغربها ودائرتها كلها وما بعدها.
- الشاعر ينطلق من الحسي للمعنوي ومن الظاهر للباطن فيدخل في شكل الأجساد وما تحويه من جوهر وأبعاد؟ ألم يكن النبي محمد روحاً وعاش بشراً؟ ألم تكن السيدة الزهراء نفحة من الجنة وتجسدت أنثى من طين وماء؟ ألم يكن آل البيت أنوار تجسدوا ينيرون الظلام ويحقون الحق الأعلى من العظيم الأعلى؟ أليسوا أسراراً تجلوا؟ نعم هو الصوفي يرى بعين صفائه والولي يرى بعين ولايته والصالح يرى بعين صلاحه مالا يراه الناس.. كلما شفّ الإنسان وارتقى وبالمقام علا، وكلما بقر العلم واستدرك الفهم تجلّى له المعنى.

" بكِ قد سكرتُ كأنّ حالك مسّني.. فمشيتُ خذلان الفؤاد لموئلي"

-بك قد ثملت وشربت فسكرت كأن حالك المخمور المشتعل مسّني بصاعق فمشيت كالسكران، كسيرالفؤاد في قصدي وسبيلي.

"وأتيت داراً للنبي وآله.. بالباب فاطمة وحارسها علي"

- بعد هذا الوصف الغزلي الحسّي ينتقل الشاعر تدريجياً إلى المقصد الحقيقي، إلى أهل الدار الذين قصدهم عبر الطريق، فهم النبي وأهل بيته: فاطمة وعليّ يستقبلانه على الباب، فلا يمكن الدخول للبيت من دون الباب.

" كل الملائك الكرام تنزّلوا.. والروح ينزل بالكتاب المنزل"
-هنا إحدى حالات الوصف للملائكة الكرام والروح القدس كيف يأتون بالكتاب ويتنزلون في بيت رسول الله. الشاعر يلتقط لنا مشهد في الزمن يبدو ماضي لكنه مستديم بعين الزمان، وهذه هي حالة الكشف والتجلي، لعالم الروح الغني البهي، الفاخر والمهيب.

" هنا أصل تكويني ومكمن عزتي.. هنا أول البشرى بأطهر منزل"

-الشاعر حين يصل للبيت - بيت النبي- يعود به الزمن بالتصور، يتذكر بذاكرة الروح فيقول: من هنا أصلي وفصلي وانتمائي وعزتي، هنا كانت أول البشريات بقدوم الوحي في أطهر منزل.

" بيت التقى والهدى بيت محمد.. في سابق الأيام أو في المُقبل "

-هذا البيت، بيت محمد، بيت الهداية ونشر الرسالة وبيت التقوى واليقين في الماضي كان ويبقى مدى الأيام بخلود الزمن.

" ألا خيّب الله الذين قلوبهم.. كادت لآل البيت كيد التتفل"

-خاب الذين امتلأت قلوبهم بالحقد على آل البيت فكادوا لهم كيد المراوغ الذي لا أمان له ولا عهد مودة أو وثاق.

" أيصدُّ بُغضاً من أتاه مؤيداً.. نور من الرحمن لم يتبدل"

-أيكون هذا المبغض الحاقد لرسول الله وأهل بيته حاجز صدّ ومنع عنه وعن تأييد هذا النور الرحماني الذي لا ينقضي ولا يتبدل أبداً؟!

روحانية الشعر و الإنسان:

- روحانية الإنسان تتجلى من خلال ما ينطق به فإن رأيت إنسان يذكر ألفاظ القرآن كثيراً ويستشهد بآياته وذكر سِيَره واستحضار الرسول في أحاديثه فهو روحاني قد تشرّبَ القرآن شربا ففاض في الحديث وصفا واختزن محبة ذلك في قلبه لتشرق في لحظات على لسانه، وإن كان شاعراً سرت إلى ألفاظه سري السر الذي يتجلى عبر التغنّي فيما ينطق من سحر البلاغة وجلال القرآن، فالقرآن هو المعين الذي لا ينضب بحروف البلاغة بما يخلب اللبّ ويثير العقل بروح المعنى وحلّة اللفظ.
هذا إن كان روحانياً و لم يكن قد اكتفى باختصاص علمه وحده، بما لا يبقي إلا المادي الدلالي الذي لا يتجاوز ثقافة المادة إلى روح المعنى … فهناك شعراء متقنون لفن الكلمة وبيان العبارة وحبكة السرد وعروضية الشعر المتقن ببناء الأعمدة، المدعم بقواعد المبني لكن لا نفحات فيه تجول بعبق الروح، وتكاد تكون هندسة خالية من أي إشراق سماوي، لا تأخذك لذاك العالم الفسيح ولا تحررك من قيد المادة، فلا تغدو الحضارة عند ذلك إلا بناء هياكل لكنها خاوية بعروشها إلا من ثقل الحجارة من دون جدوى.

- جدوى الروحانية:

الروحانية تحرّر… تفرد لك أجنحة.. تدعك ترى الفضاء الأعلى.. ترسم أوجه للأمل والخلاص.. لا تقف عند الحدود الدنيا.. فذكر الرحمن… ومورود من بيان القرآن سحر آخر.. لأن القرآن بيان ووحي وروح ووعي، قبل أن يكون شكل ولفظ وتزيين، وإن كان القرآن جاء بمعجزة البلاغة ليتحدى المعجزين المفتخرين المتحدّين بطلاقة اللسان بما يحقق غاياتهم في عصرهم.. جاء القرآن ليعيد صياغة الصح على مختلف العصور، فاختزن المعنى، واكتنف الإيحاء والرمز، وحفظ العلم في قوالب لفظية ذات حلل ومفاتيح من الحرف، بما لا يعجزه تعبير… وقد أذهل البلغاء والفصحاء في ذاك الزمان فاعتقدوا النبي الذي جاء به ساحراً يأتي بكلام من عالم آخر من السحر أو الجان… " فإن من البيان لسحرا" وحقاً إن النبي جاء بما هو أرقى مما يأتي به الساحر أو الشاعر، ولو تضمن ذلك لكنه يتخطّى المعتاد يؤتى العلم بالكلام من عالم الغيب والشهادة، عالم الحق، عالم الصدق، وإنّ فيه من السماء لعطرا، ومن الإعجاز لسُكرا فيكاد يظهر سحرا.

* روحانية الكلمة عند الدكتور مازن الشريف

السيد الشاعر مازن الشريف هذا الشيخ الصوفي نجده يجدد هذا البيان القرآني بشعره ويسترجع النبض باقتباسه بلفظه وتحليه بفكره وتأويله واستنطاقه بذكره وتأويله بعبقريته وفلسفته، بأسلوب تلقائي شعري مبدع من جميل حدائق السور وروض الآيات بمزجٍ بديع وزرعٍ بهيج.

*شمولية المعنى وعلم نفس الإنسان:

قصيدة ورقاء (الروح- النفس- الجسم) :

-فارتجّ في الروح قصر الوصل وانهدمت.. دور الأنس والأفراح والسكن

-والروض في النفس قد صارت حدائقه.. مثل الطلول لدى البيداء والدَّمن

-ضمت يدي شغفاً للصدر راجفةً.. ودنت لتحضنني بالمرهف اللّدن

- الأطلال المعنوية:

" فارتجّ في الروح قصر الوصل.. وانهدمت.. دور الأنس والأفراح والسكن"

-ذِكْرُ الروح مباشر هنا في قول الشاعر قصر الروح، وأي معنى وجمال حين نعترف بالروح ونجعل لها قصراً يرتج، وهي حقاً الأساس في الاهتزاز…
- هنا الشاعر اعترف بأن أصل التأثر يكون في الروح.. الروح ذاك المعنى الذي ابتعدنا عنه كثيراً تحت ذريعة: (وقل الروح من أمر ربي). فإن كانت من أمر ربنا أفلا نحاول الاعتراف بها كشيء موجود واقعي يحركنا ولا نبتعد عن مفهومها لنغدو هياكل من دونها تتحرك كالتوابيت؟ طبعاً معروف عن الشاعر روحانيته العالية وتوظيفه المعاني بمكانها لإيصال الفكرة المناسبة طالما أنه عالم بالروح والإنسان والأكوان، ما يجعل القارئ أو المتلقي يقترب بكل تجاذبيّة التحبّب والفهم المستساغ مدرجاً هذه المعاني في قاموسه بعد عصور من الجهل والخوف من طرق هذا الباب العظيم. وللشاعر فضل في ذلك…

علم نفس الشعر عند الشاعر مازن الشريف:

-الروح هي الأصل هي من تحزن وهي من تفرح وهي من تذهب ديار أنسها أثناء الهجر وتعمها الأفراح في الوصل.

"والروض في النفس قد صارت حدائقه.. مثل الطلول لدى البيداء والدَّمن"

كذلك هنا جعل الشاعر النفس كالروض الذي صارت حدائقه وقد دبّ فيها اليباس كأطلال بائسة من النبات السيء الرائحة والعفن… فكأن الشاعر يعيد ترتيب المفاهيم فينا بكل تأودة ودقة، فيدخلنا في علم التقييمات للإنسان إذ هو روح ونفس وبدن وجسم وجسد - كما فصّله هو- هنا النفس كذلك تتأثر من عدم الوصل فتغدو كالديار الخالية من أهلها وقد تركت الأطلال فيها آثار العفن والبلاء.

الروحانية مزيج الحسية:

"ضمت يدي شغفاً للصدر راجفةً.. ودنت لتحضنني بالمرهف اللّدن"

-وهنا الشاعر ينزل بنا لوصف الجسم من خلال مشهد المحبوبة التي تودعه فتدنو منه ووتضم يده لصدرها بكل حنوّ المودة وارتجاف القلب تحضننه بشغف بخصرها الرهيف الطريّ الغض.

-نجد أن لوحة الوصف اكتملت عند الشاعر بكل روحانيتها وحسّيتها ووصفها وترتيبها.. من الروح إلى النفس فالجسم الذي الذي يملك كل عناصر الحس الحركي والجسد بأعضائه الجميلة من اليد والصدر والخصر.
كل ذلك بكل عبق الروحانية الشفيفة الطاغية والعميقة التي تقود عملية الإحساس والفكر والشعور.. دون أن تلغي واحدة منهن للأخرى، عدا عن الجمالية المنبثقة التي تزنّرها وتسوّرها بسياج من الصور العابقة بالجمال.

الشكوى للرحمن وقصيدة موتور الصبابة:

-يا من سبى قلب الفتى وأراعه.. ودعاه داعٍ للجفا فأطاعه

-ما كنت أقبل بالبُعاد وإنما.. وفّى الزمان بكيل بينك صاعه

-أشكوك للرحمن أنت قتلتني.. وحفرت هجراً لست أدرك قاعه

* إلى القلب وسَبْيه:

" يا من سبى قلب الفتى وأراعه.. ودعاه داعٍ للجفا فأطاعه
- لم يغفل الشاعر بذات القصيدة من ذكر القلب بهذا البيت الرائع… مستعيراً بعض ألفاظ القرآن " دعاه داعٍ" فهذا التوظيف الرائع للاقتباس أعطى جمالية مضافة بما يقرّبنا به من دفء كلمات القرآن.
-
" ما كنت أقبل بالبُعاد وإنما.. وفّى الزمان بكيل بينك صاعه"

فالمشهدية هنا جمالية بلغتها المنطقية البلاغية التبريرية الشفيفة " وفّّى الزمان بكيل بينك صاعه".. صورة نافذة المعنى.

- فهل أرقى من هكذا حكم وأرقّ من هذا شكوى؟

" أشكوك للرحمن أنت قتلتني.. وحفرت هجراً لست أدرك قاعه "

-العاشق يشكو للرحمن حفرة الهجر التي أوقعه فيها المحبوب، ويجعل من الرحمان الحكم و الفصل بينهما، .ولفظ الرحمن عظيم ومُطَمْئِن وناعم الحرف، يريح القلب والوجدان، لا يخفى ما بها من إيحاءات المحبة واللطف باختيار هذه الصفة ، وكأن الشكوى هنا في بيت الشعر آية مكمّلة في سورة الرحمن لكن جاءت هنا ترتيلة شعرية مضمنة في قصيدة غزلية: (الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علّمه البيان) .

"أشكوك للرحمن" هل أجمل مما كان فصيحاً بالقرآن متمكناً من آياته لدرجة استساغتها على لسانه وانسيابيتها في خلايا لغته، ونثرها كالعطر بين عبارات شعره؟! هذه من الروحانية والإيمانية العظيمة التي لا يضاهيها بالقيمة شيئا .

اكتمال العناصر في الحب وفي الشعر:

-قصيدة أنا عاشق:

-ويصول في روحي الغرام معربداً.. ثملاً بكاسات الجمال قد ارتوى

-وجوى المليحة في الضمير كأنه.. نارٌ تشبُّ فَوَيْكَ من نار الجوى

-والعشق يضحك إن بكيتُ وربما.. ضمّك الهيام إذا عشقتُ وقد غوى

-والوجد ما وجد الهدوء بمقلتي.. فأفاض دمع العين في كبدي استوى

-والحب لا ندريه هل هو عاقلٌ.. أم أنه المجنون يلعب بالنوى

-صرع الرجال الصّيد وامتحن الفتى.. بشديدِ حالٍ بات منعدم القُوى

عنفوانيّة الحسّيّة :

" ويصول في روحي الغرام معربداً.. ثملاً بكاسات الجمال قد ارتوى"

-الغرام هنا يصول ويتحرك كيفما يشاء دون رادع في الروح وما اعتدنا الغرام إلا يتلاعب بحواس الجسد ويشعل فتيل رغباته ونيرانه بين ضلوعه، لكن تصوير الغرام وهو يتحرك في فضاء الروح لَروحانية عالية للحب وتقديسه في الروح، وقد ارتوى وغدا مترنحاً من خمرة الجمال وتجرّع كاساته، وهنا الجمال كذلك معنوي يتخطى الحسّي المعهود.

الحب في الضمير والوجدان:

كوجوى المليحة في الضمير كأنه.. نارٌ تشبُّ فَوَيْكَ من نار الجوى "

-الاشتياق واللوعة لهذه الحبيبة المليحة قد أخذ منزله في الضمير واستوطن هناك يشتعل في الوجدان كلما ألهبه خاطر منها وحركه ميل شوق اتقد متشوقاً إليها.

-الشاعر ركز على حالة الحب في الضمير.. وهذه حالة راقية لوضع الحب في الخاطر والضمير… وليس فقط في القلب والروح.. فهنا نجد أجهزة الإنسان كلها تتّقدّ بهذا الحب.. المرئي والمخفي… الحسي والادراكي والمعنوي. شمولية ليس بعدها من شمول ليبقى الحب هو سيد هذه الأعضاء ومحركها من خلال العقل والروح، مسكناً إياها في مستقر القلب وملهباً لواعجها في ضمير الوجدان.

-تضاديّة المعنى:

"والعشق يضحك إن بكيتُ وربما.. ضمّك الهيام إذا عشقتُ وقد غوى"

"وقد غوى" تذكرنا بعبارة ما ضل صاحبكم وما غوى.. -عودة هنا لاستعارة لفظية وظفت بطريقة مغايرة لكنها ذكرتنا تلقائياً بآية من القرآن، وهذا دليل شدّة البيان، وتمكّن القرآن وعباراته من قلب وروح وعقل وقلم الشاعر.
فربما يضحك العشق علينا إن بكينا وربما يضمنا الهيام لو عشقنا، وقد وقع في الغواية وأغوانا، إنها تضاديّة رائعة وجميلة، فيالهذا الغرام الذي يملك شخصية مستقلة عن الإنسان يتحكم به إذا شاء. كذلك هنا تورية من القرآن في علم النفس القرآني في سورة: ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) . تلميح غير مباشر يوصلنا لهذا المعنى.

" والوجد ما وجد الهدوء بمقلتي.. فأفاض دمع العين في كبدي استوى"

-كلمة استوى تلقائياً تأخذنا إلى "الرحمن على العرش استوى"
تأثر واضح بعبارات وكلمات وجمل القرآن لكأن هذا الكتاب هو القاموس والمرجع الأساس للشاعر بِتمكُّن وحرفيّة وفنيّة عالية، مقصودة أو غير مقصودة، في كليهما إيجابية مطلقة.
هذا الوجد الذي جعله الشاعر ندّاً للإنسان، كائناً آخر في عمقه، يراقب تفاصيل صاحبه، هذا الوجد لم يجد الهدوء بِمقلة الشاعر، فاستثار دمع العين وفاض ليستوي هذا الدمع في كبد الشاعر. علاقة تفاعلية تشاركية بين الأعضاء. وأعضاء الإنسان هنا ليست بالمفهوم الوظيفي لعمل الجسم الفيزيولوجي المعتاد بل لحالة الشاعر المتكاملة بالحس والشعور، حين يغدو الكبد كائن يحتضن الدمع وليس فقط يلتقط السموم، يفرزها، وينقّي الجسم منها .

إدراكيّة الحبّ:

"والحب لا ندريه هل هو عاقلٌ.. أم أنه المجنون يلعب بالنوى"

-وعودة هنا لكينونة الحب والتساؤل حولها فهل هو عاقل أم مجنون يلعب بنوايا الإنسان ومساحة حياته وأبعاده؟ فيقرب مَن يشاء ويبعد متى يشاء بلعبة منه؟!

"صرع الرجال الصّيد وامتحن الفتى.. بشديدِ حالٍ بات منعدم القُوى "

-هذا الحب صرع الرجال الأشداء، فكان دائرة الابتلاء، يمتحن المرء فيما إذا كان شديداً، ويصرعهم وقد أفقدهم ثباتهم وقوتهم.

*إلى قصيدة جعلت فداك، واستجداء الرحمة:

"جودي عليّ بنظرةٍ أحيا بها.. لو ترحمين فقد أمات هواك"

-كلمة جودي تستخدم عادةً كدعاء لرب العالمين فالله من صفاته الجود، وكذلك "لو ترحمين" هو خطاب من الرحمة، الصفة الخاصة برب العالمين، الله ملك الرحمة، وخطاب المحبوبة بهذه الطريقة دليل احترام مكانتها وتقريبها للمرتبة العلوية..يدعو منها ولا يدعو عليها! "خطاب منفوح ".

قصيدة: صرت بالتهيام عبدك

-أو كان ضرّك لو عفوت.. فلم يكن ذا العفو ضِدك

-إني عذرت الصبر لمّا.. لم يقف مذ شاف ردّك

بتنا يطوف بنا الغرام.. أبحتَ للمشتاق وجدك

-كلمات: "لو عفوت، صبرك، يطوف" هي من وحي قرآني، وروح عقائدية تعيدنا لأخلاق الدين .

في قصيدة وما عجبي سواك:

-أبليتني شغفاً ورحتَ صددتني.. وتركتني حافي الخطى متوسلاً

-وبسطتُ كفي نحو كفك معلناً.. أني أحبك غير أنك قلتَ لا

-مشهدية رائعة في التصوير والتعبير: فكيف تبليني أيها الحبيب شغفاً بك ثم تصدّني وتتركني وراءك مشرّداً، منهاراً، لا تحملني قدماي وقد فقدت خطواتي ، متوسّلاً، في بلاء.

ومددت يدي إليك معلناً حبي لك لكنك رفضت هذا الحب.
وقد انتقى الشاعر كلماته بعناية واستوحاها من المعين الإسلامي، فكلمة: متوسلا، من وحي أدعية إسلامية، وعبارة: بسطتُ كفي من وحي قرآني. " لا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا.

-ومن قصيدة دون عنوان هذه الأبيات:

-لي الله من قلب يرقّ ويألم.. ويموت من شغفٍ فليتها تعلم

-هي نور عيني مذ عشقتُ وإنها.. روحي وكم ذا بالمحبة أكلم

-الألوهية بذكر الله والروحانية بذكر الروح على أوجها جاءت وقد وظّفها الشاعر في قصيدته واصفاً لواعج حاله ومصرّحاً بأن الحبيبة هي نور العين وبأنها روحه! فهل هناك مقام للوصف الروحاني يتخطى ذلك أو يصل لمعشاره في الاعتراف؟! لا لن يكون هذا إلا من رأى الحب بعين الحقيقة وجلاه بمنظار القداسة والنور، إنه فقط الشاعر مازن الشريف.

*القصيدة الوجودية في قصيدة غلب الغرام:

-غلب الغرام على الفتى وأذلّه.. ورآه يسلك للهدى فأضلّه

-يرنو إلى أفق السماء لعلّها.. تهب السُّلوّ لمغرم ولعلّه

-حنّت عليه المعصرات بدمعها.. إذ بات يرضى من الوصال أقله

-ناداه صوت في الظلام كأنه.. صوت الوجود فهزّ جسمه كلّه

-فَنيت قلوب الخلق من مرض الهوى.. عجز الحكيم فليس يدرك حلّه

-هذه القصيدة الأقرب للغنائية تشرح ماهية الحب الحقيقية، فالغرام هنا يغلب الفتى ويذله، وكلما حاول المرء السير في طريق الهداية يضله عن سبيله، فينظر لآفاق السماء لعله يسلو عن نفسه حزنه، فلعله في ذلك تستمطره السماء تعزّيه بدمع من ثقل سحبها ، يجلو كربه ويخفف حرقة فؤاده، ويهبه الحكمة فيرضى بالقليل من الوصال،.
- هذا العاشق الذي يهزه صوت يأتيه من الظلام فيرتعش بكليته ويهتز بجسمه، هذا الصوت هو صوت الوجود، يقول له: فُنيت قلوب الخلق من مرض الهوى وقد عجز الحكيم عن معالجة هذا الداء.
- في هذه الأبيات فلسفة الحب عبر العصور والتي عجز الفلاسفة و الحكماء عن إيجاد حل لفهم هذه المسألة التي بتَّ الوجود عبر صوت الشاعر بقوله إن الحب لا دواء له إلا بالسلو عنه والتأمل ومشاركة الطبيعة حالاتها فتخفف عن حال الإنسان ببعض فهم وإدراك وحكمة.
- فالشعر هنا تحول لفلسفة بقالب القصيدة. وهذه عين الحكمة وروحانية النفس المفكرة، بقالب الألفاظ التي غلبت عليها الطابع القرآني، مثل: الهدى، الضلال، أفق، المعصرات.

- ونختم بهذه القصيدة التي تفسر ما ذكرنا وتترجم ذروة الروحانية الصوفية والوجدانية الفلسفية في الشعر عند الدكتور والشاعر مازن الشريف، هذا المفكر الحقيقي الذي يصوغ أفكار الخلق والوجود بطريقة جمالية وبأسلوبٍ شعري.. فكأنه روح المعنى يتلبّس قالب الجمال بكل فنون وتفاصيل الذكاء والعبقرية ليجسّد سياسة إلهية وفكرٍ سماوي أراده الله أن يحاكي العقل البشري والروح الكونية وينطق بما تريده المشيئة الإلهية، فلا عجب من أن تنسدل الروحانية وتتغلغل وتغلّف كل القوالب وتكون جوهر كل الألفاظ! إننا أمام فكر جديد وروحانية عظمى وفهم عميق لكل شيء تجسّد بهذا الشاعر العظيم.
-
(كذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتَهدي إلى صراط مستقيم). الشورى / الآية 52

الختام:

من قصيدة لك يا حبيبة:

-روحي إلى روحي التي أسكرتها.. من نظرةٍ جادت بكأس مدام
-حنّي على ظنّي فظني طيب.. لا تبتليني على الهوى بضرام
-يكفي العذاب المرّ يعصر مهجة.. صاحت لتشهد أمة الإسلام
-في دينِ أحمدٍ ما فعلت بمغرم.. قتل الصبي بساحة الإحرام
-إني أحبك والمحبة في دمي.. نور يشع على مدى الأيام

منشورات ذات صلة

الصور الشعرية في قصائد الشاعر مازن الشريف

الداخل إلى صفحة روائع الشاعر مازن الشريف كالمتجوّل في ربيع من حدائق… شاهد المزيد

بواسطة رجاء شعبان
4 نوفمبر، 2025
الخفة والظرافة في غزل الشاعر مازن الشريف

الغزل بالعموم هو التغنّي بالجمال، وإظهار الشوق إليه، والشكوى من فراقه، والغزل… شاهد المزيد

بواسطة رجاء شعبان
16 أكتوبر، 2025
قراءة في شعر الدكتور مازن الشريف

قصيدة : “ألا طال هذا الليل” نموذجاً نُشرت في الآونة الأخيرة قصائد… شاهد المزيد

بواسطة رجاء شعبان
29 سبتمبر، 2025
كيف رأى الفلاسفة والعظماء الموسيقى…وكيف قدّمها لنا المعلّم والمفكرّ مازن الشريف

يقول الإمام الشيخ أبو حامد الغزالي: «من لم يحرّكه الربيعُ وأزهاره، والعودُ… شاهد المزيد

بواسطة رجاء شعبان
29 أغسطس، 2024
رواية المعلم والتنين المشهد الخامس عشر: سَفَرْدايِمْ

حين مات الملك الشيطان كما كان يسميه شعبه: سفاريم، وأثناء جنازته، لما… شاهد المزيد

25 ديسمبر، 2022