ألقى فضيلة الشيخ الدكتور مازن الشريف محاضرة في جامع مصعب بن عمير بدار سيت في مسقط -عمان- بضيافة من الشيخ عمار درويش الفوري، تحدث فيها عن معاني رمضان الحقيقية، المتأدّبة بأدب رسول الله ، فأوضح سماحته أصول الصوم المتخلّقة بأخلاق رسول الله، من باب أدبه، وكيف يصل بنا ذلك لجوهر الصيام المحمدي المتغلغل في تفسير المعاني الباطنية وتفحّص أسس العقيدة الشرعية الصحيحة.
ولكي لا نطيل الشرح دعونا نسهب في حديث الدكتور مع معانيه العظيمة المطعّمة والعابقة المؤدّبة بآداب الرسول والمتمنطقة بمنطقه الشريف الطاهر.
⬅️ وقد استهل الشيخ حديثه وسط الجموع في المسجد بالحمد لله والصلاة والسلام على نبيّ الله، حيث قال:
الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلّم، وعلى آله وصحبه الطيّبين الطّاهرين، ورضي الله عن أصحابه المؤمنين من أحبابه.
الحمد لله الذي نزّل على عبده كتابا، وخلق آدم ترابا، وأجرى برحمته السحابَ، وهزم بقدرته الاحزابَ، مَن إذا دُعي أجاب وإذا نوديَ استجاب؛ الذي فتح لنا في رمضان بفضله وجوده ورحمته أبوابا، وكشف عن قلوب عشاقه حجاباً فحجاباً فحجابا، الذي أكرمنا بشهر القرآن، ونعّمنا بصيامه وقيامه، ومتّعنا بأيامه، ورزقنا على ذلك الأجر، فوصلنا من بعد غربة الهجر، وأعطانا حتى أغنانا، وصلّى الله على حبيبنا محمد ومصطفانا.
يا ربي صلّ على النبي محمد
خير الورى والنور في الأكوان
هو أول الآيات في إفراده
ملك التحقّق والدليل الثاني
من بلاد الزيتونة إلى عمان وكلام عن نبي الزمان وبعد.. أحبابنا في الله السلام عليكم..! أحييكم من بلادي التي أتيتُ منها وقدمتُ منها؛ بلاد الزيتونة؛ أرض تونس الخضراء، وإن كنت قادم أيضاً من مدينة جدّي رسول الله عليه الصلاة والسلام، ألتمس من أنواركم قبسا، فقد بلغنا أن رسول الله دعا لعمان وأهلها، وأنّ السّرّ مستوطن في أكنافها، وأنّ الخير ساكن في أعطافها. ونحن بحمد الله، سنناجيكم قليلا، بكلام له دواني، عن نبي الزمان.
إذ أن رمضان شهر رسول الله، شهره من حيث تنزّل القرآن عليه، وشهره من حيث سريان السّرّ منه إليه، وشهره من حيث أنه أقرب السبل إلى القرب من قلبه الشريف، وإلى التأدّب بأدبه، لأن رمضان يكسر شهوة النفس ويعينك على وحشة الأيام التي نعيشها في غربة الدنيا، ورمضان فيه ما يعين على سكينة القلب، وفيه ما يوصل إلى طمأنينة الروح، وفيه الذكر، وفيه الشكر والحمد، وفيه الصبر، وكذا فيه ليلة في رمضان خير من ألف شهر.
⬅️الصوم عند نبينا المختار
كان حبيبنا صلى الله عليه وسلم يصوم في أرض لها لأواء، بردها شديد، وحرقها وقيد، ورسول الله في هذه الأيام الرمضانية لم يأل إلى كسل، فيه بدره، وفيه ما به شفي صدره.
وفي هذه الأيام الرمضانية المباركة كان أصحاب رسول الله مخبتين معتكفين، يتملّون في الوجه الأنور ويستلهمون من السّرّ العظيم، للصدر العظيم والنبي العظيم الذي أوحى له ربه العظيم في مشهد عظيم، بالنبأ العظيم من ملك عظيم فالله لذلك الله العظيم.
وأنزل عليه كتابه العظيم، أعظم معجزاته قرآناً عربياً مبينا يعجز الفصحاء، ويذهل البلغاء، لا تنتهي عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا يستنفذ مما فيه العلماء.
⬅️مجالي النبي التي أورثها لأمّته في رمضان
رسول الله صلى الله عليه وعلى آله، هذا الذي أخبت لربّه، وأخلص في حبّه، الأحبّ إلى مولاه والأولى برضوانه ورضاه، الدّال على الله لله.
* كان له في رمضان مجالي أورثها لأمته:
أن يكون صومنا تدبّرا، وأن يكون ليلنا تفضّلا، وأن نقوم بين يدي الله، إن جعنا وظمئنا، فإن جوعنا وظمأئنا إلى الوصل أعظم، إلى نظرة المساق، إلى لقيا مولانا سبحانه وتعالى، إلى مشهد يقول لنا إن كل ما في الدنيا زائل، لا يدوم جوعها ولا ظمؤها ولا شبعها، وأن نقوم عند إفطارنا لنظرة الزاهد فيها وهي تقبل عليه، كما قمنا حال صيامنا بنظرة الزاهد فيها وهي تدبر عنه.
** فكان الحبيب المصطفى يقول: لو كان لي جبل أحد مَن الذهب لقلت هذا لذاك وهذا لذاك حتى إذا أشرقت الشمس لم يبق عندي منه شيء.
** وكان يقول: إن هذه الدنيا لو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى الله كافر منها شربة ماء.
** وقال: الدنيا جاعت فيها بطون الأنبياء، وشبعت فيها بطون البهائم.
** فحال صومنا يقوم في مستهلّه: أن يكون صوم الحوّاس، فإذا ارتقى الحال الى حال محمدي إلى أسوة حسنة برسول الله
يصبح صياما، يصبح صيام الجوارح الباطنيّة، أن تصوم النفس عن شحّها، وأن يصوم العقل عن سهوه، وأن يصوم القلب عن حبّ ما سوى ربّه. وأن تصوم الجوارح الباطنية كلّها صياماً وقياماً في جلال الله، نحو نظر الى جمال الله، في سير نحو الله بالله، على هدْيٍ من رسول الله، "صلوا على رسول الله".
⬅️نبينا العظيم لم يكن ملَكاً لكن كان يخدمه كل ملك
** إن الحبيب الأعظم صلّى الله عليه وسلّم، لم يكن ملكاً، وكان يخدمه كل ملك، وكان من عالم الطين، لكن الله شرف به كل طينٍ، حتى طينة آدم، لمقامٍ لم يسبُق له الأنبياء ولم يبلغه الملائكة الذين في مقام الاستواء.
⬅️مقام النبي أعظم من مقام جبريل
** ما كان إسراؤه ومعراجه إلا دليلاً على ذلك، إلى مقام أنّك لو تجاوزت اخترقتَ وإني لو تجاوزتُ احترقت، في شهود عظيم،
في مقام عظيم، لم يسبق لمخلوق ولا يجوز لميت.
** إننا إذ ننتمي إلى هذا النبي العظيم، علينا أن نقف بين يديّ الله نتلمّس النفحات، "إن لربكم في أيامكم نفحات تهرع لكم،
هذه النفحات لها في رمضان مواقيت"
⬅️مقام يريدون وجهه
** إن صيام الصائم! وقيام القائم بين يديّ الله، يريد وجهه، لا يبتغي من وراء ذلك جنّة يرجوها، ولا يداري بذلك ناراً يخشاها، إنما يقف في مقام عظيم، أمر النبي أن تقف فيه وأن يصبر نفسه فيه، (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه).
** في مقام يريدون وجهه، هو مقام الصاحب الحقّ الذي علم وعرف أن الغار حجاب وأن الجنة حجاب، وقد قال من قبل الباقر للصادق يعلمه يقضيه: أن قوماً عبدوا الله خوفاً فتلك عبادة العبيد وأن قوماً عبدوا الله طمعاً فتلك عبادة التجار، وأن قوماً عبدوا الله حبّاً فتلك عبادة الأحرار.
** وقد قالت رابعة العشق؛ رابعة العدويّة:
أحبك حبّين حبّ الهوى
وحباً لأنّك أهل لذاك
فأما الذي هو حب الهوى
فانشغالي بذكرك عمن سواك
وأما الذي أنت أهلٌ له
فكشفك للحجب حتى أراك
ولا فضل في هذ و لا ذاك لي
ولكن الفضل في ذا وذاك
أن نقوم وأن نصوم لله سبحانه وتعالى حبّاً وامتثالاً ( سمعنا وأطعنا).
أن نقوم في مقام هذا الصيام على خطى النبي، على بدع النبي، إذ كان يبكي حتى تخشى عليه السيدة عائشة في سجوده إذ يطيله.
⬅️مقام عباد الرحمان
أن نقوم في مقام (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما).
أن يورثنا صيامنا هذا سلاماً في القلب ينعكس سلاماً مع الناس.
ألا يكون الصوم مدعاة للغضب، مدعاة لضيق النفس وضيق الصدر بحجّة أنّه صائم وأنّه مرهق وأنّه مرضان.
أنت واقف بين يدي الله بالأدب، أنت واقف على خُطى رسول الله بالأدب.
⬅️سمت الصالحين
أن يكون سمتك سمت الصالحين الذين (يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم يتفكّرون في خلق السماوات والأرض
ربنا ما خلقت هذا باطلاً).
⬅️تدبّر القرآن
أن يكون لك في رمضان وقوف مع القرآن للتدبّر، لا لأن تقوم بخمسين ختمةٍ تُمٌرُّ الآيات إمراراً، ولا تقف على ما فيها،
ولا تنظر إلى ما يخفيها وما يُبديها، وما يجعل الله من بركاتها وخيراتها وثمرها وجناها.
-أن ترتقي في مرتقاها وتلتقي في ملتقاها، وأن يرى النبي فيها مرتّلا، وأن تسمع جبريلا منزلا بالوحي منزّلا، وأن ترى الجمال مجمّلا والعفو مؤمّلا.
⬅️باب رحمة الله
وأن تقف بباب رحمة الله تستطرق أبوابها:
لا تيأسنّ وإن طالت مطالبةٌ
من بعد صبرك يوماً أن ترى فرجا
أن تقف متوكّلاً على الله، متوسّلاً برسول الله، مستمطراً مطر من قطر الرحمات.
وقوف أخوة يوسف إذ أتوا ببضاعة مزجاة، وقوف الذي انكسر قلبه وثبت حبه ورضي ربه وتنوّر وشُكرَ قلبه.
أن نقف في رمضان وقفات العشاق؛ وقفات العشاق الحيارى السكارى الذين عنهم البدر ما توارى.
أن يكون وقوفنا وقوف المؤمنين، وقوف الذين أيقنوا وآمنوا وعرفوا فغرفوا.
⬅️جوع الجسم في رمضان
إنّ جوع الجسم في رمضان يكسر شهوة النفس، وإن هذا لمجال للقربى والزلفى لا تجده إلا في هذا الشهر، لأن النفس من طبعها أنها شحيحة على صاحبها، (ومن يوق شحّ نفسه).
النفس من طبعها لا تعتبر، ولا تبتكر، ولا تفتكر، فعندما يلجمها الله بلجام الصوم، وعندما يضرب، قوى نار الشهوة فيها، يعين ذلك قلبك، لينطلق ويمد جناحيه.
كم مضى لك من يوم لم تبك عينك في ذكر الله؟
كم مرّ لك من أيامك لم تكن قائماً بين يديّ الله، ( قم الليل إلا قليلا)، ( كانوا قليلاً ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون)
هل استغفرت عن ذنب الغفلة، عن ذنب الفرح بدنيا تحجبك عن مولاك؟
هل استغفرت عن ذنب الهجر، كم مرّ لك من الوقت لم تصلّ على النبي صلاة مَن ينظر إليه ، من يسمعه، لأن الحبيب قال إن الله يسمعني صلواتكم عليّ.
* إذا دخلت بيت الله، هل علمت أنّك في بيت الله، أي عظيم تقابل، ولأي عظيم تسجد، أي جلال في المقام؟!
* هل علمت وأنت تقول أشهد أن لا اله إلا الله أي عهد عهدت، وأي عقد عقدت، إنها لا اله إلا الله، تسجد الملكوت وما حوى،
لا اله الا الله على عرشه استوى، لا إله الا الله خالق الحَبّ والنّوى، لا إله إلا الله عالم فيه الناوي وما نوى.
لا إله إلا الله ، لا إله إلا هو.
* هل وقفت بين يديّ النبي الذي قال عنه ربّه : (والنجم وما هوى، ما ضل صاحبكم وما غوى).
* هل تعلم أن شهادتك بين يديه؟ أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لا تقوم إلا بسماعه لك؟ فهل كانت وراثة أم حراثة؟ هل كان إمرارا على الآباء، أم يقيناً وإبداء؟
⬅️التأكيد على تجديد العهد
لابد أن نجدد العهد، وأن نقوم كما قام الصحابة، نحن الذين عاهدوا محمد، أن نجدد البيعة في رمضان لهذا النبي العظيم، أن يعلم كل واحد منا أنه رسول رسول الله، رسول رسول الله مع نفسه في تأديبها وتهذيبها.
رسول رسول الله مع قلبك في أن يسقيك معاني المحبة.
رسول رسول الله مع أهلك في الرفق والعفو " خيركم خيره لأهله وأنا خيركم لأهلي".
رسول رسول الله مع الناس " الرحماء يرحمهم الرحمن".
في الرزق والعفو، خيره خيره لأهله، وأنا خيره لأهله.
رسول رسول الله مع الناس الرحماء يرحمهم الرحمن، " يرحم أهل الأرض يرحمكم من في السماء.
⬅️النصيحة الذهبية في رمضان
فليكن لك في رمضان مجلس مع رسول الله، تجلس بين يديه
تستغفر الله بين يديه، ليستغفر لك الله، لتحفى بنظرة لا تشقى بعدها، مع حامل لواء الحمد، مع الشفيع مع صاحب الوسيلة والفضيلة، خير ولد آدم، ولا فخر أشرف الخلق، ولا فخر، من يلوذ به يوم القيامة النبيّون، والشهداء والصالحون، حتى يجمعك الله جميعاً لا تفريق له، حتى توصل بالأصل، وتوصل بلا فصل، حتى تسقى، حتى تقوم في مقام:
( أيتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية) .
قرانية، هذه الاية عجيبة، هذه الآة عجيبة،
بلى أيها الأحباب.. إن كل شيء يشتاق إلى حبيب الله، وإن هذه الدنيا منذ أن فارقها فارقتها أنوار، لا تحل إلا بزورة من روحه إلينا، وإن سيدنا محمد لما كان في الأرواح روحاً كان الروح الأقرب، وأنا أول المسلمين.
قال: كنت نبياً وآدم منجدل بين الماء والطين.
⬅️دعاء الخاتمة
نسأل الله لنا ولكم حسن العناية وغفران الجناية ونور الولاية
والتمعن في سرّ الآية ورفعة الراية وتحقيق الغاية، غفران ذنوبنا ومحو عيوبنا ونوراً في قلوبنا ويسرى في ذنوبنا وتحقيقا لمرغوبنا، مطلوبنا على عين إخوان محبوبنا، الكلام في حضرة الحبيب المصطفى؛ كلام يوجه له القلب والكلام عنه منه، كلام صعب. قال الحبيب المصطفى بلغوا عني ولو آية، ولن تبلغ عنه ما لم تذهب له، ولن تفهم الآية ما لم تحسن الاستماع والانتفاع، وأن تستعيذ بالله من دعاء لا يُسمَع وعلم لا ينفع، وبطن لا تشبع وعين لا تدمع وقلب لا يخشع، وأن نقف متدبّرين في رمضان بآيات القران، "إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا".
ألا نهجر كتاب الله وليكون ذلك عهداً لنا من رمضان إلى رمضان، (أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها) .
سدّ الظنون وخلّها يا صاح
واضرب بشدو البلبل الصداح
دع عنك قول المرجفين وما ادعوا
وامدح فإني نصبت للمداح
⬅️أنت الضياء
بلى أيها الأحباب.. إن كل شيء يشتاق إلى حبيب الله، وإن هذه الدنيا منذ أن فارقها فارقتها أنوار، لا تحلو إلا بزورة من روحه إلينا، وإن سيدنا محمد لما كان في الأرواح روحاً كان الروح الأقرب، وأنا أول المسلمين، قال كنت نبياً وآدم منجدل بين الماء والطين.
*
أجدت في نظم القصيد كثيراً، منذ أن كنت طفلاً، إلى أن يرث الله جسده وروحه، وكان مما قلته في حضرته، من سرّ فطرته، على نظر إلى أسرته:
أنت الضياء فلا شمس ولا قمر
ولنور وجهك طاب العشق والنظر
يا أشرف الخلق يا أعلاه منزلة
أجلى الحقائق إن في هديك الظفر
منذ ان صعدت إلى الرحمن في كنف
يشتاق خطوك حتى الرمل والحجر