كان من بين الفانين الذين تمكنوا من رؤية التنين الأسود، وامتلاك شيء من قوته، ذلك الشاب الذي خسر حبيبته لأن زعيم قبيلة الجذع رغب بها واخذها عنوة.
خرج حاملا سيفه وقتل اول من اعترضه من الحرس، قاتل بقوة ووحشية، لكن سهما أصاب كتفه، وآخر في فخذه، وانهالت عليه الهراوات.
زعيم العشيرة أمر بقتله، وحبيبته التي نشأ على حبها كانت تنظر إليه بشفقة.
فجأة أخذت خنجر أحد الحراس وهددت بقتل نفسها، ولكن طعنته كانت أسرع.
وحين كانت تلفظ أنفاسها، كان يصرخ، وشعر بقوة غريبة تسري في عروقه، قوة جبارة، ورأى أطيافا سوداء تحلق من حوله، سمع ضحك الشامتين يقرعون كؤوس الخمر.
وهو في تلك الحفرة العميقة، رأى تنينا أسود ينتفض في بلورة دائرية مغلقة، ثم نفخ نارا سوداء توغلت في جسده وتحول لون عينيه إلى أسود مرعب.
انفجرت الحفرة من حوله، كان يغادرها وحشا مدمرا، فن التنين الأسود، وطرق قتالية عجيبة كانت تحركه، ولم يكن يعرفها من قبل، لكنه كان يعيها فور القيام بها.
ضربة يد واحدة وطار جندي بعيدا، ضربة ساق وانكسر ظهر جنديين معا، ثم قفز ولف بجسده برشاقة غريبة ليكون أمام زعيم العشيرة الذي شهق بهلع وجحظت عيناه ويد مخلوق بين البشري والذئب تخترق صدره وتكتم أنفاسه.
هكذا تردد في المدن عن قصة الرجل الذي هزم عشيرة الجذع كلها، والتي كانت تقطع الطرق على القوافل وتسيطر على طرق التجارة البرية وممراتها التي تتوسط الإمبراطورية.
قيل أيضا أن النساء والأطفال اختفوا، دون أثر.
لأيام طويلة كان يحملها بين ذراعيه، كائن مخيف يحمل قلب عاشق.
وفجأة عاد إلى طبيعته البشرية، ليجد نفسه في صحراء شاسعة، ويجد بين يديه جذع شجرة.
وامامه في سراب الصحراء، ظهر طيف عجوز بشع، وقال له: أنا خادم كبير تنانين الظلام، الدهقان الأسود، وانا من اغويت زعيم عشيرة الجذع لاختطاف حبيبتك وصورت له ان قتلها سيعطيه الخلود، والقوة المطلقة، لكني كنت أريد تحرير قوة الشر التي فيك، فقد تنبأ السحرة السفليين أنك المختار لحمل الخاتم وفتح بوابة التنين الأسود.
لم يعثر على حبيبته، ولا عثر الناس على من بقي حيا من عشيرة الجذع، حتى وجد أحد الرعاة عددا كبيرا من النسوة وأبنائهن يختفين في مغارة كبيرة، ويبدو أن هنالك من كان يجلب لهن الطعام، رجل ملثم، كان في عينيه رحمة تجعله شبيها بكائنات النور.
وعلى مسافة بعيدة في جوف الصحراء، كانت ترقد فتاة من حولها شيء كالدخان، وكانت تبدو مستيقظة مفتوحة العينين، إلا أنها لم تكن تسمع ولا ترى ولا تعي بشيء، وفي صدرها أثر طعنة وبقية دم متجمد يغلي كحمم البراكين.
حين رآها أحد العابرين فر ورجع مع بقية أفراد القافلة، وكان بينهم حكيم فقال لهم: لا تقتربوا منها فعليها لعنة التنين الأسود، ولكن أحيطوها بالملح ورددوا معي هذه الطلاسم حتى لا تخطفها الأرواح السفلية، وسيأتي من اختاره القدير لإنقاذها، ولعل لها حبيبا يبحث عنها الآن كما يبحث الظمآن عن الماء.
بعد أعوام داخل عالم الظلام، خرج رجلا مختلفا، ساحرا ومتحكما في الأطياف السوداء، ومقاتلا رهيبا بفنون التنين الأسود.
ورغم كل تلك المدة مع شياطين الدهاليز السفلية، وما تعلمه من الدهقان، إلا أن قلبه بقي متعلقا بشيء من الماضي، كومضة ضوء في سديم مظلم.
عشقه كان سر حفاظه على بريق كيانه، فلم يدخل ذلك العالم إلا لأن الساحر الأكبر وعده أن جائزة نهاية تدريبه سيكون اللقاء بها، وأنها لم تمت حقيقة، بل وضع عليها ختمة سوداء تمنع عنها الموت.
أمام البوابة الظلامية وجد حارسين مشوهين، وبجوارهما كانت تقف فتاة، دقق النظر فيها وخفق قلبه، لكنه سمع صوتا في أعماق صدره يقول له: لا تنخدع.
رجع خطوتين إلى الوراء، ثم أشهر سيفه بسرعة ضوئية وضرب به خلفه، وسمعت حشرجة روح سفلية تحتضر، لقد سدد بقوة روحه ضربة للدهقان الأكبر اخترقت نسيجه المظلم فبدأ في التلاشي، وأمام عينيه رأى الحارسين والفتاة التي يشبه ظاهرها حبيبته يتحولون إلى مسوخ تلاشت وهي تموء كالقطط المشردة.
ظهر خلف الظلام ضوء، وفي الضوء ظهر رجل في يده خاتم مضيء، وبجواره كانت تقف، مايجن، حبيبة روحه التي أبقاه حبها إنسانا رغم أنه مكث مع الشياطين زمنا، قفز في البوابة التي انفتحت أمامه ليجد نفسه في الصحراء، والرجل المضيء ينظر إليه بصمت.
كانت حبيبته بين الحياة والموت، يحيط بها الدخان، ودمها يغلي في موضع الطعنة الغائرة.
نظر إليه الرجل وقال له داخل عقله وعيناه تومضان بوميض غريب: لقد أتقنت الفنون السوداء كلها، ولكنك تنتمي للنور لا للظلام، وآن أوان كسر اللعنة التي فيك وفيها.
بدأ الرجل ينفذ ختمة معقدة، ووجد يديه تقلدانه بسرعة رهيبة، وحين أصدر الأمر بإطلاق الختمة، سطع منهما نور كبير أضاء العتمة، ثم أضاء جبين مايجن والنور يخترقها منهما وينزع الدخان.
نظر في تعجب إلى الجرح يندمل بسرعة كبيرة، والدم يختفي، وكذلك الدخان الأسود.
ضم حبيبته ورأى الرجل المضيء يختفي، انفتحت له بوابة أخرى فلم يدخلها، بل قام بختمة أخرى ليفتح بوابة مجاورة، فقد تذكر كل الختمات وكيفية القيام بها.
عندما نظرت إليه مبتسمة، ومسحت دموعه، انتفضت الشعلة التي في صدره وأضاءت ثم توهجت كشمس صغيرة، واهتز قلبه شغفا.
وحده الحب يحفظ النور بهذه القوة، ولا يسمح للظلمات مهما سيطرت بالانتصار.
لسنوات أخرى تعلم كيف يتحكم في قوة التنين الأسود، وفي التشكل الذئبي، وتعلم كيف يسيطر عليه فلا ينجرف، وكيف يكون أفضل مقاتل دون أن يقتل إلا عند الضرورة القصوى.
كان للقائه بالمعلم الكبير اختلاف عن كل من سبقه أو لحقه من النخبة المختارة بعناية.
تايبنغ لم يخبر أحدا عنه، وبقي التلميذ الذي غاص في عالم الظلام ليقهر الشر بالشر لغزا في طي الزمان، لا تعرف سره إلا التنانين، حتى حان موعد الكشف عن هويته.
وبعيدا في كهف سري في أرض الجليد، جلس رجلان ينظران في بلورة أمامهما ويشاهدان باهتمام، كان أحدهما يضيء بطاقة بنفسجية، وكان الثاني يضيء بضوء أسود له شعاع.
قال الرجل ذو الهالة السوداء: يظن حقا أنه غاص في عالم الظلام، ولا يعلم أن كل ذلك ختمة من ختماتنا، وأن عشيرة الجذع التي قتل زعيمها كان محكوما عليها من فوق بالزوال.
لكن مايجن دفعت ثمنا باهضا، رغم أننا لم نسمح للخنجر بأن يخترقها حقيقة وزيفنا الجرح وركبنا المشهد كله.
إن فنون الوهم فنون عظيمة فعلا يا معلم.
أجابه ذو الهالة البنفسجية بهدوء: نحن جيش النور الذي يمكث في الظلام لينفذ المهمات الموكلة به.
إننا نغوي الغاوين أنفسهم، ونخدع المخادعين، ونقضي على الشر بالشر.
لقد دربناك جيدا يا سفردايم، وغلب دمك على دم أبيك سفاريم المكتوب في كتاب الأشقياء، وتلك حكمة القدير في خروج ميت من حي وحي من ميت، وولادة ظلماوي من نوراني أو نوراني من ظلماوي، ولعل دم أمك غلب عليك.
طأطأ ذو الهالة السوداء رأسه بحزن وغمغم: الحكمة المرة لغز لم أفهمه، حتى حين التقيت المعلم الأعظم شخصيا، قائد فيلقنا.
ثم رفع رأسه وقال مبتسما: رغم كل شيء يكفيني أني لست في كتاب الأشقياء رغم كل الشقاء الذي أتقمصه يا يوشين، وليس أعجب من قصتي سوى قصتك، يا ابن معلم النور الذي تم اختياره ليكون معلم فنون الظلام.
لم يعلم هو لاو بشيء مما دار بين يوشين وسفردايم، حتى بلغ مستوى سمح له بالجلوس معهما في نفس الكهف وتفكيك اللغز وحل الطلسم، وهنالك بكى بحرقة وضحك بجنون وضرب يدا بيد ثم أذعن مستسلما لقوة القدير وحكمته العصية على فهمه.
لقد أصبح كبير المعلمين، بعد زواجه بحبيبته، وعيشه في المروج الخضراء الهادئة متقمصا دور المزارع مع البسطاء والطيبين، حيث توغل في مزيج بين فن النور وفن الظلام، ورسم صورة كتب عليها: هذا هو الين يانغ، إنها حكمة التناقض والتناغم.
لقد ورث دون أن يعلم سرا من أسرار المعلمين التوأمين ين ويانغ، ولكنه مضى في تفعليها إلى حيث لم يبلغا، لأنهما لم ينزلا العالم السفلي كما فعل، ولذلك فقد كان مميزا، أو هكذا كان يعتقد، فلم يتصور وجود فيلق كامل مختص في فنون الظلام رغم انتماء روحه لعالم الضياء.
بعد أعوام قليلة كانت لديه من الحكمة الهادئة والعميقة ما مكنه من تدوينها أولا، ثم تعليمها.
وأمام كثرة إقبال الناس والشباب على دروسه وتأملاته، بنى معبدا صغيرا للتأمل، وجعل دروسه تحت الشجرة الحمراء.
وتحت ذات الشجرة وجد يوما شيخا يمد يده ليلتقط ثمرة من ثمارها التي كان محرما على الناس اقتطافها أو أكلها، إلا أن يأتيهم إذن مباشر منه فيقتطف لمن أذن له لتكون دواء وطاقة وحياة.
قال له: يبدو أنك غريب ولا تعرف القوانين هنا ولا تدرك خطورة هذه الشجرة، إن ثمارها يمكن أن تهب الحياة ويمكن أن تسلبها.
قال العجوز بصوت متقطع: لا يهب الحياة إلا القدير.
رد: كنت أعني مجازا، طبعا القدير هو الواهب.
وأنت ماذا وهبتك الشجرة وثمارها قال العجوز.
أنا لم أذقها من قبل.
تأذن لغيرك ولا تأذن لنفسك.
بل تأذن الأرواح لي فأعطي لغيري، ولم يأتني إذن بعد.
مد العجوز يده للشجرة فنزلت أغصانها إليه، أمسك ثمرة فأضاءت، ثم لمس جذع الشجرة فانبعث منها الضوء، من عروقها ومن أغصانها ومن كل ورقة فيها بألوان كثيرة. وبدا الجذع كبلورة تتدفق فيها مياه فضية وضاءة.
صار النور مبهرا، ثم فتحت بوابة ظهرت منها تنانين، ثم رأى العجوز يتحول إلى غيمة من نور، ليستوي رجلا قويا مهابا على رأسه تاج، إنه الرجل الذي دله على مكان حبيبته وذكره بفن الختمات.
جرى ذلك قبل ألفي عام من ولادة كي تونغ، الذي سيجلس تحت نفس الشجرة حين تختفي ثمارها.
هي صفحات دونها المعلم في كتابه السري الذي كان يخفيه في عالم التنانين، عن تلميذه “هو لاو”، المعلم البشري الرابع لفن التنين الأسود، الذي سينفذ مهماته العسيرة بدقة متناهية، وسيفتن الكثيرين، ليظهر الشر المختفي فيهم، ضمن حكمة أكبر، تتصل بإرادة عليا، لها في الخير والشر حكم لا يدركها البشر.