إنها أرض اليأس، حيث لا شيء سوى الظلال الكئيبة والبؤس والجفاف.
وحولها تمتد صحراء المتاهات الألف، والتي لم يعبرها أحد مطلقا سوى “ذئب الريح”، عندما كادت حبيبته تموت، فقال له الكاهن أن علاجها في زهرة البلور التي تنبت فوق جبل النسور، جبل يقع خلف الصحراء، ودونه متاهات وأهوال وكائنات من عالم الظلام.
كانت “يان” تموت امام عينيه، لم يتحمل “تسو مينغ” ذلك، فهي طفلته، حبيبته التي عشقها منذ أول يوم رآها فيه، حتى أنقذها من الرمال المتحركة في فم الصحراء.
كانت كزهرة البلور ترتدي لباسا مزركشا، ثم مضت إلى ميدان المحاربين، حيث والدها أمير تلك القلعة المحاطة بلعنة الرهبان السود.
ولأنها طفلة شقية، فهي لا تفكر قبل أن تتصرف، بل تتصرف وفق ما تراه ثم قد تفكر.
وفي ذلك اليوم قررت أن تصيب والدها ووزراءه وقائد الجيش وبقية الجند بمزيد من الجنون، وأن تجرب امتطاء حصان أسود كليل شعرها، لكنه جمح، ودخل بها الصحراء حيث الرمال المتحركة وأفاعي الأعين الثلاث، أفاعي بثلاث عيون، عين وسطى مغمضة، حين تفتحها وتنظر إلى فريستها يحترق.
وكان “ذئب الريح” يعمل في إصطبل الخيل، فهو ابن رجل فقير يسعل طول الليل، وأم لم يعرفها وقيل أنها ماتت وهي تضعه للحياة.
وقد كانت أرض اليأس من قبل تسمى أرض الزمرد، حتى حولها ساحر أسود ذات يوم إلى أرض اليأس وملأها بالأفاعي ووضع أرصاد المتاهات الألف، كي يمنع نبوءة طفل.
يان الجميلة، حديث المدينة كلها، شعرها أطول من ليالي الشتاء، وعيناها قمران يلبسان السواد لكن نورهما أخاذ، وهي أجمل من زهرة جبلية، تحب الخيل، وتعشق الشغب والمشاكسة وتضحك كثيرا فتردد ضحكاتها في أرجاء القلعة كنهر من الموسيقى حتى تتمايل الجدران طربا.
ولأنه لم يعد في تلك الأرض من الخيل إلا القليل النادر بعد أن حلت بها لعنة اليأس، فقد كان الحصان الأسود محط الانظار كلها، وكانت هي أيضا، إنها الأمل في أرض يحاصرها القنوط.
كان ينظر إليها بخجل، وتنظر إليه بدلال.
تعلم أنه أحبها منذ اول لحظة وأنها عشقته منذ اول ثانية، ذلك الشاب الوسيم، والفقير، الغني بكنوز لا تراها أعين الناس، لكنها لم تكن تخفي عن عينيها الجميلتين.
ذات مرة دخلت الاصطبل وطلبت منه أن يختار عملا آخر وستطلب من أبيها ولن يرفض لها طلبا، لكنه في الحقيقة كان يريد مكانا يقربه من الخيل التي تحبها، ومن عاشقة الخيل التي يحبها.
فر “قطعة الليل” بيان، صرخ عجوز بصوت مبحوح، ركض خلفها، كان الحصان يثب الارض بها حتى بلغ فم الصحراء، حيث الأفاعي، وحيث الرمال الملعونة، وفجأة توقف لغريزة الخوف، فألقاها من فوق ظهره في قلب الرمال، وبدأت تغوص ببطء، في حين ظهر رأس أفعى سوداء تفح الدخان وتفتح عينها الثالثة.
وصل إليها، ارتمى في الرمل وامسك يدها، صرخت ونظرت إليه تودعه، لا تقتل نفسك من أجلي.
بدأت تغوص أكثر، شعرها كان ملقى على الرمال كخيوط من الليل المتماوج ملقاة على شاطئ.
جذبها بكل قوة حبه، وكانت الرمال تجذبها بكل قوة حقدها.
قال لها مرة في لقاءاته السرية المنعشة بها: لا شيء أقوى من الحب، ورآها تبتسم.
لا تقتل نفسك من أجلي، قالت بصوت يختنق وأناملها تفارق أصابعه المرتعشة.
أحس أن روحه بدأت تتحول إلى عاصفة، وفي العاصفة كان يعوي ذئب جائع غاضب، قال لها: لا شيء أقوى من الحب.
ابتسمت رغم شعورها بالاختناق.
جذبها بقوة، شعر حينها أنه غرق في الرمل معها.
أطلت الأفعى من تحت الرمل، وكانت تلتوي عليهما معا، وتعصرهما، أحس انها تكلمه، تقول له: وقعت أخيرا، يا طفل النبوءة.
كان يرى تنينا أسود يتحول على عجوز فأفعى فعاصفة من الرماد.
فتح عينيه، وصرخ، لا شيء أقوى من الحب.
فتحت الافعى عينها وخرجت نار سوداء.
لكن من بين يده الممسكة بيدها، ويدها، خرجت فراشة زرقاء، وتحولت في لحظات إلى نور أزرق.
لم يستطع أن يميز، هل هو نور كأنه فراشة، أم هي فراشة ملونة يشع منها نور أزرق.
كبر حجمها واحاطتهما بهالة من النور، نور أزرق سماوي.
بدأت الأفعى ترتعد، تحاول التملص والفرار في جوف الرمل.
فتح عيني روحه، لا شيء أقوى من الحب.
سطع من عينيه شعاع غريب، وتحول لونهما إلى الأحمر، وفي الحمرة خط أخضر، مثلث أحمر فيه دائرة خضراء.
ظهرت الأفاعي وفتحت أعينها، لكن نارا خرجت من عينيه احرقتها كلها.
تلاشت كأوراق شجرة محترقة، تحولت إلى رماد.
وفي بلورة سفلى كان يرى أمامه التنين الأسود بحجم دودة صغيرة، والصحراء كلها كانت حبة رمل.
لا شيء أقوى من الحب.
كان ذئبا، ذئب أحمر قوي، سرعان ما أصبح بجناحين، إنه التنين الذئب، واحد من ملوك التنانين.
أمام كل أهل القلعة المفزوعين، انفجرت الرمال، وخرج ذئب الريح يحمل بين يديه يان.
كان يمشي في عاصفة من الرمل، وحين خرج منها ظهرت أعين مضيئة واختفت. كان الرمل يتشكل في اشكال تنانين، ثم انفجر كله، وذئب الريح يحملها، وشعره أصبح طويلا وجسده مفتول بشكل مخيف، عيناه حمراوان.
لا شيء أقوى من الحب، فتح عينيه مجددا، كانت بين يديه، قبلها من جبينها، وعلى وجهها ينير قمر من بلور ضوئي.
“حبيبي، ليس أقوى من الحب، إلا من خلقه”.
نطقت تلك الكلمات بابتسامة عذبة ووجه متألم، ابتسمت، وأغمي عليها.
صرخ أحد الأطباء في ساحة القصر: لقد لدغتها الأفعى، لن تتمكن من العيش إلا قليلا.
وفي نشيج الحزن وصرخة أم الأميرة، ونظرات الناس المرتعبة منه، وهو يرجع بسرعة إلى الشكل البشري، سمع صوتا مختنقا سفليا يقول: لقد وصلت متأخرا، كدت تقتلني، لكني قتلتها.
في تلك الليلة حزنت المدينة كلها، لكن الأمير لم يكن حزينا، بل هادئا.
عندما رحل الجميع، قال له بصوت مثقل: أريد أن أخبرك بأمر يا بني.
إن اسمك الحقيقي ليس ما تعرفه، وأبوك الحقيقي ليس ذلك الرجل الفقير، وهو في الحقيقة أحد الحكماء المقربين مني، ولم تمت أمك، لكن هنالك ختمة على عقلك تمنعك من التذكر، وأنا أزيلها الآن.