دأب الصالحون من أنبياء وأولياء على حفظ وتوارث السر الإلهي فيهم وانشغلوا في معرفته وتعظيمه (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب). وإنّ أعظم سر إلهي في الوجود هو ذلك السر الأحمدي أعظم خلق الله وأحب الخلق إلى الله، هذا الذي كان مدار الاهتمام عبر العصور وكان الفرقان بين الحقّ والباطل إما توارثاً أو اتّباعاً ومحبةً. إنّ من اللطائف معرفة أنّ سيّدنا إبراهيم اهتمّ بهذا السر، فالمعلوم أنّ الله عز وجل أطلعه على عظم مقام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلّم، ولكن عندما نجّاه من النار كان ذلك علامة تعرّفه أنّ السر في صلبه وأنه وارث له محفوظ به، ثم لما أنجب وأحبّ أن يعرف من الذي سيرث السر من أولاده، علّمه الله ذلك عندما نجّى سيّدنا إسماعيل من الذبح، فكانت الإشارة وكأنّ الله ينجّي حامل هذا السر العظيم. وهكذا انقسمت شجرة آل إبراهيم: فرع (أبناء سيّدنا إسماعيل) توارث هذا السر العظيم صُلباً وحِفظاً وتعظيماً، كابراً عن كابر، وفرع (أبناء سيّدنا إسحاق) توارثه علماً وإخباراً وتحضيراً، وإنّ في قول الله عز وجل (ان الله اصطفى ادم ونوحا وال إبراهيم وال عمران على العالمين، ذرية بعضها من بعض) إشارة لذلك. فإن كانت ذرية سيدنا إسحاق قد توارثت النبوة أو سر النبوة إلى سيدنا عيسى عليه السلام (من آل إبراهيم إلى آل عمران ذرية بعضها من بعض (في الفرع الثاني من المشجر الإبراهيمي))، فكيف بذرية سيدنا إسماعيل صاحبة السر الأحمدي الذي هو أعظم من أسرار سائر الأنبياء؟ أليست أيضاً ذرية بعضها من بعض؟ أليس القرآن نزل على الحبيب ولنا نحن أمة الحبيب؟ ألا يكون في هذه الآية إشارة وتلميح لمن يتدبّر ويفهم؟ وإنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم قد استعمل نفس اللفظ "اصطفى" في الحديث (إنَّ اللَّهَ اصطفى مِن ولدِ إبراهيمَ إسماعيلَ ، واصطَفى من ولدِ إسماعيلَ بَني كنانةَ ، واصطَفى من بَني كنانةَ قُرَيْشًا ، واصطفى من قُرَيْشٍ بَني هاشمٍ ، واصطَفاني من بَني هاشمٍ) فتنبّه ! وإنّ في سورة الأنعام أيضاً إشارة لعظيم مقام الأوصياء في الفرع الإسماعيلي، وذلك في الآيات (٨٣-٩٠): فبعد أن ذكر تعالى الأنبياء من ذرية سيدنا إسحاق (ومن ذريته داوود وسليمان وايوب ويوسف وموسى وهارون… إلى قوله وزكريا ويحيى وعيسى والياس) قال: (ومن ابائهم وذرياتهم واخوانهم، واجتبيناهم وهديناهم الى صراط مستقيم). فإن كان الاجتباء لآباء وذريات الأنبياء، فكيف بآباء وذريات سيد الأنبياء صلى الله عليه وعلى آله وسلّم؟ واللطيف أيضاً أنّ في نهاية هذه الآيات قال تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا ان هو إلا ذكرى للعالمين) وفي آية سورة الشورى يقول تعالى (قل لا اسالكم عليه اجرا الا المودة في القربى) فإن جمعت بين الآيتين فهمت المعنى، فكأنّ في الأولى تلميح وفي الثانية تصريح. وكذلك في قوله (فبهداهم اقتده) إشارة لطيفة في هذا المعنى لمن تنبّه، فهي ليست بمعنى الأمر بالاتّباع، لأنّ هذا يكون للأدنى فيؤمر باتّباع الأعلى، أو للأعلى يؤمر باتّباع الأعلى منه، لكن من في الخلق أجمعين من هو أعلى مقاماً وأعظم قدراً من سيّدنا رسول الله؟ إنما هي بمعنى إرادة الله أن يكون هذا الأمر هكذا، كقوله (كن فيكون) فهو ليس أمراً إنما إخبار بأنّه سبحانه جعل الأمر على ذلك النحو. وإنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم أشار لذلك أيضاً في الحديث (لَمْ يَلْتَقِ أَبَوَايَ فِي سِفَاحٍ، لَمْ يَزَلِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يُنَقِّلُنِي مِنْ أَصْلَابٍ طَيِّبَةٍ إِلَى أَرْحَامٍ طَاهِرَةٍ، صَافِيًا، مُهَذَّبًا، لَا تَتَشَعَّبُ شُعْبَتَانِ ، إِلَّا كُنْتُ فِي خَيْرِهِمَا)، ولا ننس أيضاً الآية (وتقلبك في الساجدين). فكلّ ذلك من الأدلة على عظم مقام آباء النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، فهم أقطاب زمانهم وهم أوصياء على هذا السر الرباني العظيم الذي مدار الكون بأكمله بجميع مخلوقاته يدور حوله، كيف لا وهو رحمة للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وسلّم؟ نعم، كل من حمل في صلبه هذا السر فهو قطعاً قد اختاره الله عز وجل بعناية واصطفاه على جميع الخلق حتى كان له هذا الشرف وهذا المقام الخاص الفريد. وهكذا، لا يصحّ إلا أن يكون آباء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلّم هم السادة وأخير أهل عصرهم. وقد انشغلوا بتوارث هذا السر العظيم وحفظه، وهذا ما نراه بعد نجاة والد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلّم في حادثة نذر عبد المطلب الذي كان متابعاً لأمر هذا السر عارفاً باقتراب الوقت مبشَّراً بأنه من ولده باحثاً عن وارثه من أولاده، فهل كانت تلك الحادثة علامة أنّ السر في سيّدنا عبد الله كما كان مع سيّدنا إسماعيل (الذبيحين)؟ وهل لعلامة النجاة من الذبح إشارة بالارتباط المباشر؟ (سيدنا إسماعيل الولد المباشر لسيدنا إبراهيم، وسيدنا عبد الله الوالد المباشر لسيدنا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلّم). وإن عدنا للحديث (إنَّ اللَّهَ اصطفى مِن ولدِ إبراهيمَ ، إسماعيلَ ، واصطَفى من ولدِ إسماعيلَ بَني كنانةَ ، واصطَفى من بَني كنانةَ قُرَيْشًا ، واصطفى من قُرَيْشٍ بَني هاشمٍ ، واصطَفاني من بَني هاشمٍ) فهل كان الاصطفاء إلا بعد انفصال النسب وتوارث أحد الفروع ذلك السر (أي أنّ السر لمّا كان في الأصل ثم انتقل إلى الفرع، حصل الإصطفاء في الفرع الذي ورث السر وكان حاملاً له)؟ وما السر لذكر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلّم جدّه هاشم عن سائر الأجداد؟ هل لذلك علاقة بأخيه عبد شمس جدّ أبي سفيان؟ وهل بدأت العداوة من حسد عبد شمس لهاشم عند معرفته أنّ هاشم هو الوارث والحافظ لذلك السر العظيم؟ والمعلوم أنّ أهل الكتاب أيضاً كانوا يتناقلون هذا السر علماً وتوصيةً، وقد انتظروه وسكنوا طيبة لذلك، فلما لم يكن منهم كفروا به استكباراً وعناداً وحسداً. أليس كل ذلك يؤكد اهتمام الأجيال عبر الزمن بهذا السر، حفظاً وتوارثاً (ذرية سيدنا إسماعيل) أو علماً وتوصيةً بالاتّباع (ذرية سيدنا إسحاق)؟ ولكن، هل توقف نور هذا السر عند النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلّم أم أنه استمرّ وورثته ذريته؟ وما علاقة كل ذلك بقول (ليت أشياخي ببدر شهدوا)؟ فإن عرفت ما كان قبل الظهور، فكيف برأيك يكون ما كان بعده؟ فتدبّر تفهم واختر فريقك جيداً !