أحبك يا جميل بكل حال
فهل عزفت عيونك عن وصالي
وخدك ما لخدك إذ أراه
يذوّب مهجتي برؤى الجمالمعارضة لقصيدة “رسمتك يا حبيبي في خيالي” لسيدي أبو الهدى الصيادي، والتي أنشدها الرائع محمد أديب الدايخ.
لحلب الشهباء وأيامي فيها، وللعشاق جميعا، ولمن أحب.
….. مازن الشريف…….
معارضة؟؟ ما هي قصيدة المعارضة؟ ولماذا يعارضون الشعراء بعضهم شعراً بقصائدهم أو كتاباتهم… متى نشأ هذا النوع من الأدب؟ وهل تقتصر المعارضة على الشعر أم تمتد لفنون أدبية أخرى؟
دعونا نتعرف على فن المعارضة الشعري وقد أوحى لنا الشاعر الدكتور مازن الشريف بذلك عبر نشره لقصيدته الأخيرة : أحبك يا جميل، معارضاً بذلك قصيدة الصيادي: رسمتك يا حبيبي في خيالي، محرّكاً ومفعّلاً فنّاً أدبياً كاد ينقرض ومحاكياً كبار الشعراء مستفرداً بإسلوبه السهل الجميل الممتنع ومؤثراً بسحر عباراته وعبق بيانه وجمال وصفه، متفوقاً على غيره، و هو لبّ المعارضة الشعرية فجوهر المعارضة وأساسها الإعجاب والمحاكاة ولو بدت تحدّياً ناعماً ثم تتحول منافسةً لغوية شامخة بالعبارة والمعنى.
إذاً فن المعارضات الشعرية : فن من الإبداع يمارسه الشعراء لإحياء تراث الشعراء السابقين، و باب من أبواب الشعر العربي، قديم قِدمه، استمر عبر العصور الأدبية، وانتهى إلى عصرنا الحاضر، حيث كثرت معارضة الشعراء القدامى بعضهم لبعض، ومعارضة المحدثين للقدامى، وقلَّت معارضة المحدثين للمحدثين، فما أن يلمع نجم قصيدة من القصائد حتى يتسابق الشعراء إلى معارضتها، ويتبارون في ذلك.
المعارضات إحياء للفن العربي ولتراث الشعراء السابقين:
المعارضات الشعرية إذاً تبقى أحد الفنون الأدبية في الأدب العربي، تأتي كصيغة من المباريات الشعرية التي تجري بين الشعراء، تختلف عن التقليد كونها نوع من إثبات الذات والقدرة على الإبداع في ظل قيود معينة، وتبدأ بأن ينظم شاعر ما قصيدة، فيأتي شاعر آخر، داخل هذا القالب لأنه أعجبه وإما لنقض معاني هذه القصيدة وأفكارها لأنه يتبنى وجهة نظر أخرى مضادة، لكنه إمعانًا في التحدي يلزم نفسه أن يبدع في نفس القالب الشعري الذي التزمه الشاعر الأول، فيلتزم نفس الوزن والبحر والقافية، وفي العصر الحديث يعد أمير الشعراء أحمد شوقي من أبرز رواده.
وفي كتابه (تاريخ المعارضات في الشعر العربي) يقول الدكتور محمد محمود قاسم نوفل رئيس قسم اللغة العربية بجامعة النجاح في نابلس أن المعارضات الشعرية تعود إلى أيام الإسلام الأولى، وأن هناك قصائد نالت إعجاب الشعراء كثيراً فأكثروا من معارضتها كقصائد البوصيري وكعب بن زهير، ويعد هذا الفن إحياء للفن العربي ولتراث الشعراء السابقين في كل زمان ومكان، حيث تنشط فيه الحركة الأدبية الشعرية ويربط ماضي الشعر بحاضره.
ولم تقتصر المعارضات على الشعر فقط فقد تعدته إلى النثر فشملت الرسائل والمقامات، كتلك التي ظهرت بين الخوارزمي وبديع الزمان الهمذاني في مجال الرسائل، كما عارض ابن شرف الأندلسي بديع الزمان الهمذاني في مقاماته فعمل مقامة في ذكر الشعر والشعراء.
المعارضة في الشعر باختصار: أن ينظم شاعر قصيدة يحاكي فيها قصيدة شاعر آخر مستعملاً نفس البحر ونفس القافية وذلك لإعجابه بها، مع حرصه على أن يفوق نظمه القصيدة النموذج براعة.
المعارضات في شعر الدكتور مازن الشريف:
لم يغفل الشاعر الدكتور مازن الشريف عن أمر بل كتب عنه فهل تغدره عبارة: هل غادر الشعراء من متردّم؟ نعم لم يغادر الشاعر الشريف من متردّم، من جميل وجليل إلا وكتب عنه ووافاه حقه وعظّمه وجمّله وبجّله بما يوصله بإسلوبه السلس والمألوف لآذان الجميع تفهمه أسماعهم وتفقهه قلوبهم وتستلذ به أذواقهم وتستقر إليه أرواحهم، مستطعمة بذلك روعة الفن الكتابيّ الآخذ من الصبغة الألوهيّة، المرتوي من عذب الكلام المجسّد لعبارة وردت على لسان النبي محمد “ص” : وإن من البيان لسحرا.. متخطّياً جمال اللفظ إلى عمق المعنى، فهو الآتي بعلم المعنى وكاشف كوامن الكلمة بما تتجلّى حلّتها الباطنية بهيئتها الظاهريّة.
فهل من متذوق للشعر والكلمة، فاهم للفكرة.. متلقّي لجديدها وغريبها المذهل المدهش المتدرّج على سلّم الرقي للمعنى قالباً وروحاً؟
لنعرض الآن قبل الدخول في عرض أمثلة عن قصائد المعارضة وأشهر مبدعيها القصيدة الرقراقة، للمعلّم الدكتور الشاعر مازن الشريف، المتناغمة بحروفها والمضبوطة بروعة تعابيرها وسحر بيانها، ثم لنتوقّف قليلاً عند بعض الصور البلاغيّة الحكيمة والمحكمة متطرّقين من خلال ذلك إلى نمط شعر الدكتور مازن بشكل عام وليس بالدراسة والتخصيص، لأن تخصيص دراسته شعرياً يحتاج لشعراء ومختصين يكتبون نقداً وعلماً موسوعات عن شعره ودواوينه المتعدّدة في الفنون والمتلوّنة في النوع والجمال والشكل، من شعر الغزل..للشعبي واللهجي.. للصوفي.. إلى الوطني.. والإنساني.. للعمومي المتخصص بكل شيء..
فما هي القصيدة التي عارضها الشيخ الشاعر مازن الشريف للسيد أبو الهدى الصيادي ومن يكون قائلها؟ وهل أضاف الشريف شيئاً عليها أم جاءت بذات السوية دون إبداع أو إضافة خصوصية معينة؟
قصيدة الصيادي:
رسمتك يا حبيبي في خيالي
ولم يرسم سواك بلوح بالي
جعلتك قبلتي محراب روحي
بقلبي في الهجير وفي الظلال
أهيم إلى ليال كنت ألفي
بها يا طيب هاتيك الليالي
وحقك أن وجدي فيك وجدي
وحالي لم يزل بهواك حالي
وقال العاذلون تسل عنه
وقلبي لم يكن آنا بسال
كتبت إليك عرض الحال لهفا
بدمع سح مني كاللآلي
ولم أرفع لغير الله أمري
وهذا دين سادات الرجال
……
وأبو الهدى الصيادي هو محمد بن حسن وادي بن علي بن خزام الصيادي الرفاعي الحسيني، أبو الهدى. أشهر علماء الدين في عصره. ولد في خان شيخون من أعمال المعرّة وتعلّم بحلب وولي نقابة الأشراف فيها، ثم سكن الآستانة، وقلّده السلطان عبد الحميد الثاني العثماني، مشيخة المشايخ، وحظي عنده فكان من كبار ثقاته.
كان من أذكى الناس، وله إلمام بالعلوم الإسلامية، ومعرفة بالأدب، والظرف والتصوف. وصنف كتباً كثيرة وكتب الشعر.
من أشعاره هذه القصيدة : “رسمتك يا حبيبي في خيالي”
والتي أنشدها محمد أديب الدايخ، وعارضها الشيخ الدكتور الشاعر مازن الشريف مهدياً إياها حسب قوله:
لحلب الشهباء وأيامي فيها، وللعشاق جميعا، ولمن يحب.
قصيدة الشريف:
أحبك يا جميل بكل حال
فهل عزفت عيونك عن وصالي
وخدك ما لخدك إذ أراه
يذوّب مهجتي برؤى الجمال
ولحظك قاتلي وهواك حتفي
وحبك جنتي ولظى اشتعالي
وقدك ينثني فأموت وجدا
وشعرك يرتمي فيهيم بالي
تمنيني شفاهك ألف أمس
وترميني لحاظك بالنبال
ويسبيني بجيدك ضوء شمس
ملكت الروح يا شبَه الغزال
وُجودك في الوجود وجود أنس
وَجودك كم يجود بكل غالي
فخذني بالحنين إليك طفلا
وخذني بالمحال وبالخيال
وزدني لهفة واذب فؤادي
وحيّر خاطري بنهى المعالي
فحبي مطلق وهواي محض
ووجدي مطبق وجواي عالي
وحسي مرهف دنف قوي
وعشقي متلف قد هدّ حالي
ليال لم أزل بهواك صبا
أيا طيب الصبابة والليالي
فجد يا متلفي وأغث عليلا
رماه الشوق من قمم الجبال
وصلني عاشقا وارحم قتيلا
وضم متيّما يا ذا الدلال
فأنت مولّهي يهواك قلبي
وقلبك يا متيّمي لا يبالي
“كتبت اليك عرض الحال لهفا
بدمع سح مني كاللآلي
ولم أرفع لغير الله أمري
وهذا دين سادات الرجال”*
طواهم في المحبة كل موج
كطي الروح في كنف الجلال
ولم يشفع لصبوتهم وقار
وقد نظر الكمال إلى الكمال
لهم في حالة التهيام سكر
يهدهد مغرما ويهد خالي
ويرسل في الظلام نجي طيف
شجي الصوت دري المقال
يترجم صبوة العشاق لفظا
يدندن والنصال على النصال
“رسمتك يا حبيبي في خيالي
ولم يرسم سواك بلوح بالي
جعلتك قبلتي محراب روحي
بقلبي في الهجير وفي الظلال”*
……
وفي نظرة على كلتا القصيدتين نرى الفرق شاسع بينهما رغم اشتراكهما بالموسيقى الجميلة والأسلوب البسيط السهل، عدا عن غنائيتهما و تناغمهما، لكن بمقارنة واضحة نجد أن قصيدة الصيادي جاءت بأبيات قصيرة غير موسَّعة وبمعان بسيطة جداً ليس فيها من سحر و بلاغة وإعجاز ” فهي ضمن حدود المقبول” من دون محسّنات وبديعيّات خارقة… في حين وصلت قصيدة الشاعر مازن الشريف لعشرين بيتاً من الشعر اقتصرت قصيدة أبو الهدى الصيادي على سبعة أبيات.
ولسنا هنا بوارد المقارنة لصالح قصيدة على حساب قصيدة ولكنها دراسة ودّية شاعرية نظهر من خلالها عبقرية الشعر وتفوقها من شاعر لشاعر، تفوق استحقه الشاعر مازن الشريف، وهذه حقيقة يجب الاعتراف بها والقول فيها كي لا نظلم شاعر ضاهى بجمال شعره وعبقرية شاعريتة فطاحل الرجال من الشعراء والأدباء والفقهاء.. فالجميل في نظم الشاعر مازن الشريف جوهرَنة الشعر وتأدّبه بالمنطق الإلهي والأسلوب الراقي من التفكير… فهو يصوغ جمله من درر الجمال ويلبس أفكاره من روح المعنى العلوي بما يضفي قدسيّة على العبارة لم نشهدها عند باقي الشعراء.
بعض الإضاءات على القصيدة المازنية:
وخدك ما لخدك إذ أراه
يذوّب مهجتي برؤى الجمال
يجمع الشاعر بين المعنوي والمحسوس في صورة تدمج الجسد بالروح، تشعل الفكرة بالشكل، فالخد محسوس ورؤى الجمال معنوي غير ملموس.
وحبك جنتي ولظى اشتعالي: حبك جنتي معنى معنوي صرف، ولظى اشتعالي صورة محسوسة ملموسة.
وقدك ينثني فأموت وجدا
وشعرك يرتمي فيهيم بالي
صورة وصفية رائعة لغزل معنوي راقٍ محسوس.
ويسبيني بجيدك ضوء شمس
ملكت الروح يا شبَه الغزال
ضوء الشمس هو إسوارة الإغراء الذي يسبي الشاعر
ملكت الروح يا شبه الغزال: بساطة التعبير وجماله.
وُجودك في الوجود وجود أنس
وَجودك كم يجود بكل غالي
معنى رائع، فوجود الحبيب وجود أنس، من معاني الجنة الحقيقية وفقه التفقه بأصل الجنة إذ بها الحبيب وجوده وجود الألفة والأنس.
وُجودك.. وَجودك : جناس من بدائع المحسنات، عدا عن الموسيقى في الحروف والتناغم فيما بينها… ( وجودك في الوجود وجود، وجودك كم يجود).
فخذني بالحنين إليك طفلا
وخذني بالمحال وبالخيال
هل هناك من رقة ورقي مثل هذه الصورة المعنوية؟ “خذني بالحنين إليك طفلاً”.. ليس هناك أصفى من هذه العاطفة المشبوبة التي لا تتوقّف عند حدود الحسّي أو المادّي بل تأخذنا لعوالم الوجدان وسماوات الروح التي من أغصانها الحنين والبراءة والعودة لزمن الطفولة الأولى .. فمن يقرأ الشعر يرى بالعموم حجم الإسفاف بالذوق والابتذال بالصورة والإيحاء المنحطّ، إذ يجعلون جلّ اهتمامهم الوصف الظاهري بما فيه من اجترار أو مغريات لا تأخذ القارئ أبعد من الرغبة أو الفخر والشهوة. “وما وصَلَنا من الشعر هذا قليله الجميل والباقي كبيدر فيه مافيه من الغث والسمين، السيء والمليح.
وخذني بالمحال والخيال” : ثقافة الفكرة البعيدة والمعنى القداسي الأقصى .
“وحيّر خاطري بنهى المعالي” : من يعطي الحبيب هذا المعنى العالي إلا الشاعر مازن الشريف؟!
“فحبي مطلق وهواي محض
ووجدي مطبق وجواي عالي“: بديعيات اللغة العربية من أوج علم البديع.
“وحسي مرهف دنف قوي
وعشقي متلف قد هدّ حالي” : موسيقى القلب والروح
هل هناك من عاشق شاعر متواضع يعترف دون إحساس بخدش الكبرياء مثل هذا القائل بهذا الشعر؟
وقد نظر الكمال إلى الكمال:
الوصول بالحال والوصف إلى أعلى درجات الصوفية بوصف وتوصيف الحال و الحبيب.
“ويرسل في الظلام نجي طيف
شجي الصوت دري المقال”: عذوبة اللحن ونعومة الألفاظ.
“يترجم صبوة العشاق لفظا
يدندن والنصال على النصال” : بلاغة الصورة والمشهدية.
“رسمتك يا حبيبي في خيالي
ولم يرسم سواك بلوح بالي
جعلتك قبلتي محراب روحي
بقلبي في الهجير وفي الظلال”*
في هذا المقطع الأخير نجد عملية الدمج والاندغام كأنها كل متكامل “تضمين” وليست جزء مجتزء يعاد ضمّه، وهذه هي هارموني المشاعر وتماهي الحالة الشعرية والكلمة الوصفية كأنها جاءت من قطرة واحدة وليست كقطرتين متباينتَين، هذا إنْ دلَّ على شيء فيدلّ على قدرة الشاعر التقمّصية والمتكاملة الذي حول فيها معارضته لتفاعل جذّاب كسيمفونية وكأن شاعراً واحداً ينطق بذات الحال، كما ذكر الشاعر مازن الشريف في آخر قصيدة ذكرها معارضة لقصيدة: يا ليل الصب متى غده؟ قائلاً هذا نمط من التفاعل أكثر ما يكون معارضة، والمعارضة فيما يبدو أساسها التفاعل والمحاكاة التشاركية ولكن خانها لفظها باسمها الذي يبدو أقرب للمعارضة والتحدي كأن تبدو وجهاً لوجه أو جهة لجهة أو قمة مقابل قمة.. بل تندغم بالأصل لتقترب وتغدو أقرب لجبل يضم إليه سلسلة التلول المحيطة وتغدو سلسلة جبلية متناغمة الامتداد. وهذه هي عبقرية الشاعر التي لمسناها عند الشريف.. وقد رأينا مثلها في معارضات وقصائد أبو نواس الذي بقي الجبل الشامخ في حين أن معارضيه مجاميع تلال تلفّ وتمتدّ إليه.
……
قصيدة الشاعر مازن الشريف التي وصفها بالتفاعلية:
في آخر نشره لقصيدة سماها بقصيدة التفاعل الشعري مع قصيدتين إحداهما معارضة للأخرى، ذكر الشريف قائلاً:
هذه قصيدة تفاعل مع قصيدتين إحداهما معارضة للأخرى.
رائعة أحمد شوقي “مضناك جفاه مرقده“، والتي لحنها وغناها الموسيقار محمد عبد الوهاب، ومطلعها:
مُضْناكَ جَفَاهُ مَرْقَدُهُ
وبكاهُ وَرَحَّمَ عُوَّدُهُ
حيرانُ القلبِ مُعَذَّبُهُ
مَقروحُ الجَفْنِ مُسهَّدُهُ
وهي واحدة من المعارضات الكثيرة للقصيدة الخالدة، لعلها الأشهر في الشعر العربي وأكثر ما تم معارضته: “يا ليل الصب متى غده”، للشاعر القيرواني الشهير، علي بن عبد الغني الفهري الحصري، أبو الحسن، (420 488 هـ / 1029 – 1095 م) ولد في حي الفهريين بمدينة القيروان.
كان ضريراً وفقد بصره في صباه. انتقل إلى الأندلس ومات في طنجة. اتصل ببعض الملوك ومدح المعتمد بن عباد بقصائد، وألف له كتاب (المستحسن من الأشعار).
وقد ألف القصيدة التي خلدت اسمه، فتبارى المغنون في غنائها، وتنافس الشعراء في معارضتها، وهي قصيدة طويلة كتبها في مدح ابن طاهر صاحب مرسية، بالأندلس، ومطلعها:
يَا لَيْلُ الصَّبُّ مَتَى غَدُهُ
أَقِيَامُ السَّاعَةِ مَوْعِدُهُ
رَقَـدَ السُّمَّـارُ فَأَرَّقَـهُ
أَسَفٌ للبَيْنِ يُرَدِّدُهُ
فَبَكاهُ النَّجْمُ ورَقَّ لـهُ
ممّا يَرْعَاهُ ويَرْصُدُهُ
فهذه القصيدة التي أنشرها بينكم ليست من باب المعارضة بل أسميها تفاعلاً شعرياَ، كتبتها بطلب من صديقي الملحّن وعازف العود العالمي الفنان نصير شمة.
أهواك وقلبي أفقده
بهواك وليتك تنجده
يسبيه الحسن ويفتنه
ويصد الوصل ويبعده
وينادي بمطلق لهفته
“يا ليل الصب متى غده”
وبحال الوجد يبوح له
“مضناك جفاه مرقده”
ولهيب الشوق بأضلعه
وجمالك عينه تشهده
يبكي كالطير على فنن
وقصيد غرامك ينشده
يا من بهواه أباح دمي
وبخدك بان تورّده
والعاذل مال ليسمعني
ما ليس فؤادي يجحده
“ويقول تكاد تجن به
فأقول وأوشك أعبده”
مولاي وروحي تعشقه
قد لوعها سلمت يده
أسرار الله تلوح به
والروح الأعظم يسنده
مازال يريني آيته
فحنايا الأضلع معبده
“كلِفٌ بغزالٍ ذِي هَيَفٍ
خوفُ الواشين يشرّدهُ”
أهفو وبقلبي أمنية
أني بالحرف أخلّده
سوسة 9 جانفي 2025 11:40
تقييم المعارضات الشعرية:
من الكلام الجيد في تقييم المعارضات الشعرية ما قاله الدكتور أحمد زكي أبو شادي في الجزء الثاني من مجلة (أدبي):
ليس تعمد معارضة الشعر من الفن الصحيح في شيء، بل هو محض صناعة، والشعر قبل كل شيء عاطفة فكرية عميقة الجذور، لا بهرج سطحي زائف، وقد نقرأ عن بعض الشعراء الممتازين أنه حاول محاكاة شاعر آخر بقصيدة معينة، ولكن الحقيقة أنه تأثر بموسيقاه أو بموضوع القصيدة، فأثار ذلك نفسه الشاعرة، مثال ذلك معارضات البارودي للشعراء المتقدمين، ومعارضة كيتس لسبنسر، وقد كانت تلك المعارضة أو تجربة شعرية لكيتس، فإن تلك المعارضات هي نتيجة الإعجاب بالآثار السابقة، وأثر وحيها في النفس.
ومعنى هذا الكلام أن الشاعر الموهوب لا يتصنع القول حين يعارض شاعرًا، وإنما تنفجر المعاني من نبع القلب، وذا كلام عرفنا صحته حين وازنَّا بين المعارضات، فمن العسير أن نتصور الشاعر مستعبدًا لمن يعارضه، وإن تأثر خطواته في الوزن والقافية والموضوع، والمعارضة في صميمها هي تلاقي روحين وائتلاف قلبين، أو اصطدام نفسين، واقتتال عبقريتين.
فمن المعارضات التي وقعت بائتلاف الذوق والقلب ما وقع بين أبي نواس والخرّاز، فإن أبا نواس لما قال:
يا رِيمْ هَاتِ الدّواة والْقلما أَكتُبُ شَوْقي إِلى الَّذي ظَلَما
مَنْ صَارَ لا يعْرف الْوصالَ وقدْ زاد فؤادي في حُبّه ونما
غَضْبانَ قَد عَزَّني هواهُ وَلَو يَسْأَلُ مِمّا غَضِبْتَ ما عَلِما
فَلَيْسَ يَنْفَكُّ مِنهُ عاشِقُهُ في جَمعْ عُذرٍ منْ غَيْرِ ما اِجتَرَما
لَو نَظَرَتْ عَيْنُهُ إِلى حَجَرٍ وَلَّدَ فيهِ فُتورُها سَقَما
أَظَلُّ يَقْظانَ فِي تَذَكُّرِهِ حَتّى إِذا نِمتُ كانَ لي حُلُما
لما قال أبو نواس هذه الأبيات عارضه الخرّاز، فقال:
إنْ باح قَلْبي فَطالمَا كتما ما باح حبي جفاهُ منْ ظلما
وَكيْفَ يَقَوى على الجفاء فتًى قدْ مات أوْ كاد أوْ أرادهُ وما
أشْكُّ أنّ الهوَى سَيَقْتْلني مِن غيْر سيْفٍ ولا يُريق دما
كيْف احْتِيالي لِشادنٍ غَنِجٍ أصْبح بعْد الوصال قدْ صرما
ما قُلْتُ لمَّا عَلا الصُّدودُ به: يا ريمُ هات الدّواة والقلما
لكِنْ سَفَحْتُ الدُّموع مِن حزنٍ لمّا تمادى الصُّدودُ ثُمّ نما
إنَّ الرَسولَ الَّذي أَتاك بما أتاك عنْي قدْ حرّف الكلما
وأبيات أبي نواس من الشعر الكريم، وهي من المطمع الممتنع، وفيها ومضات من السحر المبين، وأي غزل أرق وأظرف من هذا البيت الذي يعد من أدق ما قيل في تلوّن الملاح:
غَضْبانَ قَد عَزَّني هواهُ وَلَو يَسْأَلُ مِمّا غَضِبْتَ ما عَلِما
وقوله في فتك العيون:
لَو نَظَرَتْ عَيْنُهُ إِلى حَجَرٍ وَلَّدَ فيهِ فُتورُها سَقَما
وقوله في أخذ الهوى بأحلام المحب:
أَظَلُّ يَقْظانَ فِي تَذَكُّرِهِ حَتّى إِذا نِمتُ كانَ لي حُلُما
أما أبيان الخرّاز فهي من الشعر المقبول، وليست من الشعر الجيد، وقد ربط فيها بعض المعاني ببعض على طريقة لم تألفها الأذواق العربية، ولولا أنها قيلت في معارضة أبي نواس لما نقلها راوية، ولا حفظها كتاب.
وهذا ما يذكرنا بأشعار الدكتور مازن الشريف حين يعارض قصيدة، فهو يتخطّى حدود القصيدة التي يعارضها جمالاً وسحراً وبلاغةً ووصفاً وفكراً وتصويراً وبياناً، رغم جمالية القصيدة التي قد يعارضها، فهو يتعامل معها بكل تفاعليّة وودّ وحبّ وذكر بكل صلاح وجميل لصاحبها ولمن يؤدّيها نشيداً وغناءً مشكلاَ بذاكرة ذاكرة جديدة تعيد تراث التاريخ الشخصي والإبداعي العام.
معارضات جرت مجرى المطارحة:
ومن المعارضة التي جرت مجرى المطارحة ما وقع بين أبي نوّاس وبين العباس بن الأحنف، وكان بين هذين الشاعرين مودّة قويّة أساسها تبادل الثقة والإعجاب. والحقّ أن أبا نوّاس والعبّاس كانا يقبسان من شعلة واحدة، فقد جمع بينهما العزل والظرف، وصفاء الروح، بالرغم من اختلاف المذهبين، فقد كان أبو نواس متلونًا في الحب يتنقل من فنن إلى فنن، على حين كان ابن الأحنف قد وقف قلبه على هوى واحد، هو محبوبته فوز التي خلد اسمها على الزمان.
حدث حمزة الأصفهاني قال: اجتمع أبو نواس مع العباس بن الأحنف في مجلس فقام عباس لحاجة، فسئل أبو نواس عن رأيه فيه وفي شعره فقال: هو أرقى من الوهم، وأنفذ من الفهم، وأمضى من السهم، ثم عاد عباس وقام أبو نواس كذلك فسئل عنه عباس، وعن رأيه فيه وفي شعره، فقال: إنه لأقر للعين من وصل بعد هجر، ووفاء بعد غدر، وإنجاز وعد بعد يأس. فلما صارا إلى النبيذ أعلم كل واحد منهما قول الآخر فيه، فقال أبو نواس:
إذا ارْتَدْت فَتى الكاسِ فَلا تَعْدِلْ بِعَبَّاسِ
فقال العباس:
إذا نازَعْتَ صَفْوَ الكاسِ يَوْمًا أخا ثِقَةٍ فمِثْلَ أبي نُواسِ
فَتىً يَشْتَدُّ حَبْلُ الودِّ مِنْهُ إذا ما خُلَّةٌ رَنَّت لناسِ
فتناول أبو نواس قدحًا وقال:
أبا الفَضْلِ اشْربن ذا الْكا سَ إنَّي شَارِبٌ كاسي
فقال العباس:
نَعَم يا أوْحَدَ النَّاسِ عَلى العَيْنَيْنِ والرَّاسِ
فقال أبو نواس:
فَقَد حَفَّ لَنا المَجْلـ ـسُ بالنَّسْرين والآسِ
فقال العباس:
وَإخْوانٍ بَهاليلٍ سَراةٍ سادَةِ النَّاسِ
فقال أبو نواس:
وَخَودٍ لَذَّةٍ المَسْمو عِ مِنْلِ الغُصْنِ الكاسي
فقال العباس:
وَقَد ألبَسَهَا الرَّحْمـ ـنُ مِنْ أحْسَنِ إلباسِ
فقال أبو نواس:
فَقَد زِينَتْ بإكْليلٍ يَواقِيتٍ عَلى الرَّاسِ
فقال العباس:
فَلا تَحْبِسْ أخي كَأسًا فَإنِّي غَيْرُ حبَّاسِ
قال الأصفهاني: فكأن ما نُسي من معارضتهما أكثر مما حفظ.
ويذكرنا بهذه المطارحة ما وقع بين إسماعيل صبري وخليل مطران، فقد مشى يومًا صبري باشا بأحد شوارع القاهرة، فرأى مطران يشرب الصهباء على قارعة الطريق فقال صبري باشا: يا مطران، لا يليق بمثلك أن يشرب تحت أبصار الناس، فابتدره مطران، وقال:
وَهَل يَضيرُ المَجْدَ أن أشْرَبا وَأجْعَلَ الحانَةَ لي مَلْعَبا
فطرب صبري باشا، وقال:
وأن يراني كُلُّ مَنْ مَرَّ بي وَسْطَ الدَّياجي حامِلًا كَوْكَبا
كذلك حدثنا الأستاذ إبراهيم الدباغ، فلما لقيت الشاعر مطران سألته عن القصة، فقال: كان يقع لنا من ذلك شيء كثير، أما أنتم يا شعراء هذا العصر، فقد بددت الشواغل أحلامكم، ولم يبق لكم من روعة المطارحة نصيب … وقد صدق مطران!
كلمة الختام:
ختاماً نقول أن الشاعر الدكتور مازن الشريف أعادنا بشعره إلى غرض من أغراض الشعر اسمه المعارضات ولولاه ما خطر ببالنا أن نتطرّق إليه ونتعرّف إليه ونتوسّع فيه خاصة أنه جميل ويمثل جانباً مهماً من جوانب الأدب العربي البليغ والمؤثّر الذي يمثل الحالة الاجتماعية التفاعليّة الفكرية عبر الشعر والأدب، كذلك في هذا الزمن المبعثر المُشتّت الذي يدعو إلى الفوضى تحت خبث الحضارة والحداثة وعولمتها ورقي التكنولوجيا ، ولكن الشاعر مازن الشريف حفظه الله حفظ بذلك تراث الأجداد وراعى سمة المبدعين العظماء الذين يعنون بقضايا مجتمعهم وأمتهم الإبداعية والإنسانية.
فحال الدكتور وسمته العامة الموسوعية وإحساسه بالأمانة والمسؤولية بكل المجالات من العلم والمعارف والأدب والشعر وكل صنوف المشيخة الأصليّة والدين النقي والعرفان الصافي، في هذا الزمن الذي يكاد يفقد ذاكرته لكثرة الكوارث المقصودة وغير المقصودة ليقابلها رجل عظيم اسمه مازن الشريف حامي لمعارفها وآدابها وعلومها معيداَ تاريخ العظماء ومحاكياَ جلّ الشخصيات الكبيرة مؤسساً لفكر نيّر لا خوف بوجوده من فقدان معارف وعلوم لأنه جاء بالأنقى والأصدق والأطهر بما يحسسنا بالأمان ويراعي تطورات هذا الزمان.
وإن شاء الله نخصّص مقالات أخرى لدراسة بعض المفاصل الهامة في شعره ورؤيته وجديده وتجديده للمفاهيم.
ونستعرض ختاماً بعض القصائد التي نشرها خلال العام من شعر المعارضات في الشعر الشعبي والشعر الفصيح.
قصيدة الضحضاح المشهورة في الشعر الشعبي التونسي،
للشاعر الصحبي شعير
حيث قال فيها:
“ضحضاح ما يقطعه صيد
لا نجع وقليد
لا طير في البر تهميد
كان المدمدم كنينه”
للشاعر الصحبي شعير.
عارضها الشاعر مازن الشريف بعد أن سمع مقطعاً منها بصوت شقيقه الشاعر والملحن والفنان رضا شعير، بتاريخ 29 افريل 2024 فكانت هذه:
ضحضاح ما يقطعه طير
لا نجع ومرير
لا صيد ضرغام وكبير
لا ثلب كريت بنابه
بر شين ما فيه من خير
مقطوع ونكير
يصعب على كل دبير
يخليه موحش ترابه
لا نبت لا عين لا بير
لا معاه تدبير
فجوج موحشة لخشها يحير
رقراق دلهس سرابه
مهاميد وخنق تدوير
وجوب وحفير
وجبال كيف المناشير
تفقد العاقل صوابه
البوم داير مناكير
والضبع شرير
ولفاع عد المسامير
والذيب طاوي جنابه
ضحضاح مقطوع في السير
لا يقطعه مسير
جي دون من ملمسه حرير
مياس زاهي شبابه
عيون سود والخد تصوير
وردات في ابرير
والغث طول المشاوير
في ليل عذب أحبابه
وناي علتي هجر وهجير
ودموع وزفير
من غزال ختال وصغير
شراد تقتل اهدابه
نرجاه ونهيم ونغير
ونحط ونطير
ونقول لو نهجره خير
ونحن وندق بابه
ويا فاطمة الموت تقدير
والوحش تكدير
والصغر بعدك تصاوير
والفرح سكر كتابه
وها خيل ها حامية الدير
فيك التساخير
صفي الوطا كبدتي جير
في وين سمح العصابة
ويا ليل يا بحر تفكير
في لصار ويصير
وأحلام من غير تفسير
واوجاع علو السحابة
فيك القمر سمح وينير
ضوّاي عالغير
جت صابته قمح وشعير
خيرات والعام صابة
وأنا الذي مدمعي غزير
مليوع وكسير
مجدوب قدام بندير
مالحال مزق ثيابه
وليه رب سبحان ونصير
بيده المقادير
يجبر يعاون يجير
يلطف يخفف حسابه
……
وقصيدة أخرى للشاعر الشاذلي القراوشي هي:
فرقت روحي على العشاق أرغفة
وطفت بين حياض الضوء والديج
أنواء قلبي إلى الٱفاق صاعدة
كأنني سحب ما إن تروح تجي
أصغي إليك وفوق الوقت ترفعني
أخلو إلي وبي قلب إليك رجي
وكل كلي تلاشى… كيف تجمعني
هذي الحروف… وصمتي صوته درجي
فعارضها قائلاَ:
فرقت روحي على العشاق والمهج
وطفت بين رياض الحسن والغنج
وقلت يا متلفي في كل بارقة
ما لي أحن لطيف منك ليس يجي
ما زلت أذكر يوما لست تذكره
إلا وخدك والعينان في حرج
يا طيب ذكر وصال زانه شغف
فأمال غصنك حتى غصت في اللُّجج
يا منكر العشق والأيام شاهدة
وكاتم الحب بين الصمت واللَّجج
كم فيك من هيف أفضى إلى تلف
وأبان عن سطوة الأشواق بالحجج
….
وخير القصائد ختاماً لقصيدة بعنوان: “قد أوجعت قلبي”
قالها الشيخ الدكتور مازن الشريف عند مقام سيدي بوزيد بتاريخ 19 جويلية 2024
13 محرم 1446. 12:30
معارضة للقصيدة الشهيرة “تبكيك عيني لا لأجل مثوبة” والتي مطلعها:
قـد أوهنت جَلَدي الدّيارُ الخالية
مـن أهـلـهـا ما للدّيارِ وماليه
ومـتى سألتُ الدّارَ عن أربابها
يُـعِـدُ الصّدى منها سؤالي ثانيه
للشاعر والعالم الشيخ محمد علي الاعسم العراقي النجفي.
مواليد النجف الأشرف 1154 المتوفي فيها سنة 1233.
-قد أوجعت قلبي السنين الخالية
من أهلها ما للسنين وما ليه
ومتى سألت الدهر عن أصحابها
أخفى الحنين ولم يجب لسؤاليه
كانوا وكان العز عند خيامهم
وبيوتهم في عزها متتالية
يبنون للمجد التليد كأنهم
سحب السماء المغدقات المالية
وأتى النبي مبشرا ومبينا
باب النجاة أنا وبعدي آليه
تلك السفينة للتقي وللذي
يرجو الإله مسلّما ومواليه
لكن في كبد النفاق ضلالة
وشقاوة في عصبة متعالية
قد نافقوا طه الكريم وحقدهم
نحو الإمام رماح بغي قالية
قتلوه ثم السبط بعده وانبروا
بجيوش بغي في الجحود مغالية
يا حسرة في الصدر ليس تزيلها
حور الخلود ولا الدهور التالية
عين تسح الدمع قلب موجع
قد طار نحو الطف يحضن غاليه
تبكي الحسين وقد رايته ثاويا
ام تبكي حضنه في الجنان العالية
ووفاء قوم صابرون لربهم
في الله قد بذلوا الدماء الغاليه
أرسلت للزهراء نبضاً متعبا
ووقفت خلف الدهر أرقب تاليه
غضب الإله إذا غضبت فكيف إذ
أبصرت وُلدك والجحافل طالية
يرمونهم بالسهم رميا متبعا
ثم الحجارة والسيوف الشالية
قطعوا وريد الطهر مزقوا لحمه
حملوا الرؤوس على الرماح الجالية
وسبوا بنات المصطفى يا ويلهم
أجسادهم عند القيامة بالية
وعذاب رب العالمين ونقمة
وجموع زيغ في جهنم صالية
نادت على المهدي فاطمة التي
قد جاوزت حجب البرازخ والية
يأتي على غيم القداسة مسرعا
ليعيد حق الآل ينصر واليه