ماذا أضاف الدكتور مازن الشريف للأدب؟ هل رَوْحَن الأدب.. كيف نرى ونقيّم ذلك.. ؟!
" الشاعر إذا دخل الغابة ووصف الشجرة والغصن والعصفور، فقد امتلك ناصية الشعر.. أما إذا كان الشجرة والغصن والعصفور فقد امتلك روح الشعر"
مازن الشريف
بمشهد واحد بل بنصف مشهد استطعنا أن نُخرِج كل هذه المعاني المهمّة للكاتب مازن الشريف من المشهد السادس عشر لرواية المعلّم والتنين، أوّل عمل روائي له! فمن الحجة والدليل التي يبدأ المشهد فيها إلى مفاهيم وجواهر: الحزن، الختمة، الأبعاد، السرعة، الخفّة، التآلف، موروث التحية"، عناصر الطبيعة، الجسد والروح، الأسطورة، الحب، التواضع أمام الخالق، القوة والقدرة ، الحياة السابقة، تناغم الجسد والروح، قوة الحبّ في تحرّر الروح، كنه الروح، روحنة الجسد وجسميّة الروح. لنكتفي بهذا القدر الكثيف والغامر ولننطلق بالدخول في هذا العالم الخاصّ الجديد للرواية وسرد الأحداث الجميلة بغرابتها والدخول بمسبار الحكمة عبر رحلة داخلية وجدانيّة الفكر والخيال والتصوّر، عميقة تسبر عالم الوعي وصولاً إلى اللاوعي وبواطن ما وراءه وغيبيّات العوالم وغابة الزهور المشاعرية الفهميّة الناعمة الرقيقة بالوصف الواصلة بالفكرة الأصل.
فالدكتور منذ فترة بدأ يطرح لتلامذته ومريديه وجمهوره العريض محاضرات عن قوّة الروح وإمكانية وكيفيّة تفعليها، وهو الخبير الدارس لكلّ حيثيّاتها وتفاصيلها بالزمان والمكان والاختراق بالقدرات والأبعاد، بعد جهد ومدد مضنٍ وسعيد، ورحيل في العوالم والعلوم المختلفة الخفيةّ الإلهيّة بطريقةٍ واضحةٍ جليّة، وبجهدٍ بشري حثيث دقيق عميق رقيق.
هو الشخص الذي يعجز عن إدراكه الفهم، رغم أّنه يفهمنا ويعلّمنا ويجري معنا لدروب رحاله بكل راحة ويسر تاركاً ما مرّ به من الضنى له وحده، وهبة لله وفي سبيل الله، بالمعرفة والتجديد بما يتماشى مع العصر ومتطلباته من الفهم والعلم والحكمة والحجّة والإقناع.
فَلنبدأ من المشهد 16 وتحليل بعض الكتابة الراوية:
يبدأ المشهد:
*(ليس هناك ما يمنع تصديق أي شيء، ولا ما يمنع تكذيب أي شيء، والأمل متصل بالحجة والدليل).
يبتدئ الكاتب مشهده بحكمة رائعة تؤكد أنّ حجة البرهان هي أصول التصديق وتبيانه عن الكذب. هذه الحكمة التي وردت ضمن سياق سردي تلقائي جميل، على لسان الأمير الذي يحدثّه عن قصته وحين قام بخفّة التذكُّر ونزع ختمة النسيان.
هنا يهبنا الكاتب معلومة جديدة لم يسبقه إليها أحد، فهو في كتابة السطور يعطي جواهر وحكم ومعلومات، ويفنّدها، حتى تسهل على أي بسيط وذي بصيرة أن يستفيد منها.
لا وقت للحزن
*(ربما كان عليه أن يحزن لكن لم يكن هنالك وقت للحزن والغضب، بل للفعل السريع):
هنا إيحاء لعدم الانسياق فقط وراء المشاعر والاستسلام لما نراه من فعل الأقدار الحزينة أو الصعبة، بل التحرك، وسريعاً، لتداركها.
الختمة
*(نفّذ الختمة بسرعة فانفتحت بوابة مائية، دخلها فوجد الصحراء، إنها القفزة البعدية):
هنا أيضاً معلومة أخرى مهمة جداً عن العوالم التي نجهلها بما يسمى بعلم الزمن "القفزة البعدية". طبعاً ما يدعو القارئ للبحث في هذه المصطلحات خارج حدود المشهد أو الرواية لو أراد.
الأبعاد
(عبر جيب من الأبعاد): أظن أن كل كلمة أو مصطلح محسوب ومكتوب بعناية عند الكاتب، فكلمة "جيب" هي علمية حوّلها إلى لغته الأدبية ليفهم الناس العلم عبر الرواية بمصطلحات علمية أدبية دقيقة.
السرعة
*(بسرعة تحركت أصابعه): عامل السرعة وأهميته في حياتنا وقت الشدة والخطر،" سرعة البديهة".
الخفّة
*(فعّل بخفة كبيرة كأن أصابع روحك تحرك): عامل تفعيل الروح الذي نصل إليه عبر الخفة والتخلص من أثقال النفس كالتردد والشرود أو الغفلة...
التآلف
*( ركّز على التآلف): إنها حكمة الحياة بأي عمل: التآلف.. الضبط.. التوازن. التركيز.. التفكير الدقيق، كل هذا حتى يأتي بالتآلف "الانسجام"، فمن دون تآلف ستبقى أعمالنا أو أي عمل نقوم به مبعثراً أو مشتتاً، ولا نحصل من خلاله إلى نتيجة أو نجاح، وربما فشل وضياع الجهد أو المشروع "المهمة أو الهدف".
موروث جميل " التحية"
*(وضع راحتيه بتوازٍ ملتصق، كانت تلك تحية أسرته، حينها فقط أدرك جوهر سرها):
إنها مركز الطاقة، إنّه لشرح مفصّل عن حركة كانت تتبعها العائلة، لكن لها بعدها ومعناها في السر الكامن بتركيز الطاقة، وكأنه يقول لنا لا تستهتروا بأية كلمة أو حركة توارثناها من أجدادنا بها أسرار كبيرة لخير حياتنا.
عناصر الطبيعة
*(بلغ قمة الجبل، تحرك كالهواء، وانساب كالماء، واستعر كالنار):
استخدمَ الكاتب عناصر الطبيعة مذكراً إيانا كيف نحملها ونتصرف بها، بتلقائية، بوصفٍ دقيق ورقيق يفي الطبيعة جمالها، عدا عن علمها وحكمتها، فنحن هي وعناصرها فينا نستخدمها دون أن نعي بتصرفاتنا وتحركاتنا العفوية، وهذه مهمة الكاتب والمحقق والمدقق، فما بالك لمن كان بالأصل عالماً؟ وسيحمّل ويضمّن كل ذرة من علمه ضمن حروف وكلمات وعبارات ومشاهد في رواية! إنها لا شك رواية الزمن كله بتفصيله وعموميته وعناصره وحكمته، وكل ما فيه ويحتويه.
الجسد والروح
*(لم يتعب جسده بل تعبت روحه من السلاسل التي تقلدها):
هنا يحضرنا الكاتب بعبارته إلى "تعب الروح"، والذي كثيراً ما نجهل "تعبها" ضمن السلاسل التي نضعها بها، وتقيدها، معتقدين أنّ التعب متمحور بالجسد أو الصحة الجسدية، متناسين دائماً أنّ هناك روحاً مقيدة هي مَن تتوجع وبحاجة إلى فك القيود عنها فيتحرر الجسد.
*(فقوة روحه أكبر من كل ما تمكن من تجربته ومن كل ما تمظهر عليه): نعم إنها الروح وأسرارها التي يشرح لنا عنها ويفك شيفراتها وطلاسمها التي ابتعدنا عن فهمها لعدم قدرتنا أو لعدم المحاولة بالمعرفة حتى.
الاسطورة
*(النسر الفضي، كائن الأساطير القديمة، لم يتصور أنه بذلك الحجم): وصف رائع ودقيق لعالم نجهله من كائنات أسطورية، أو هكذا نعتقدها أسطورية! لعدم قدرتنا على فهمها وتصديقها، فهنا يشرح لنا الكاتب بسرده عالم الأسطورة بأنه حقيقة! مضيفاً إليه دهشته الوصفيّة "كقارئ" رغم معرفته المسبقة بذلك، من خلال الوصف التاريخي الذي سمعنا عنه في القصص والروايات أو الملاحم حتى، أو التي سمع الكاتب عنها.
الحب
*(لم ينظر ولم يخف، كان يردد أن الحب أقوى من كل شيء وليس أقوى من الحب إلا خالقه): هنا العودة إلى الإيمان بمعجزة وقدرة الحبّ على فعل المعجزات شرط عدم التردد، عدنا إلى التركيز على سلبية التردد وأهمية العزم والثبات بالإيمان بالشيء دون ترك فسحة أو مجال للوسواس المتأبلس بالتردد، والنظر إلى حيث الخوف.
التواضع أمام الخالق
*(لكن هذا الحب ليس أقوى من الخالق فإن كان مخلوق يبقى الخالق أقوى منه، وإن كان الحب بعد الخالق أقوى من كل المخلوقات الأخرى لأنها باختصار مخلوقة، وكل مخلوق بعد الله ضعيف):
وهنا يذكرنا بمقولة رائعة للإمام علي تقول: "إنّ الذي ترجوه هو مسكين ابن مسكين". هنا ليس استصغاراً من قيمة المخلوق بل إدراك عظمة الخالق وقدرته، والإيمان بالحب صانع المعجزات ومحرّك القدرات بعد الله.
القوة والقدرة
*(المخلوقون لهم إمكان وجود ولو بدل البشر أن ذلك أسطورة ومحال، وعليهم من خالقهم قوة لا تسمح للأقوى أن يفعل للأدنى منه قوة شيئاً إلا بإذن وحكمة):
هنا نجد القوة المعطاة للمخلوق من الخالق وعدم قدرة تحكم الأقوى بالأدنى أو بالأضعف، إلا بإذن من الله، حسب تصرف المخلوق طبعاً واستحقاقه، وهنا كذلك دلالة للمخلوق أن يطمئن حيال قدرة أو تسلّط غيره عليه كالشياطين ومكرها وأساليبها مثلاً من الجن والأنس.
الحياة السابقة
*(لقد بدأ يتذكر شيئاً مطوياً في ذاكرة روحه، هو والنسر صديقان قديمان، لا يعلم أين ولا يعرف كيف، لكنها صداقة تمتد إلى ما قبل تشكّله جنيناً في بطن أمه، إلى وجود سابق لوجوده الطيني):
هنا إشارة إلى الحياة السابقة قبل هذه الدنيا، وختمة النسيان التي فعلها أو أرادها الله للإنسان لينفّذ مهمة على الأرض، ويقدر أن يتأقلم مع محيطه الجديد، فلا يلتهي بذاكرته أو بالأشخاص الذين فارقهم في عالم ما قبل الأرض، وهنا أيضاً نشير إلى ذكر تفاصيل لمن يود الاطلاع أكثر إلى أحد قصص الكاتب بعنوان "النسيان"، وكذلك ما يفسر لنا حين نرى أحداً لا نعرفه من قبل ونشعر أننا نعرفه نقول بعفوية متسائلين: رأيتكَ من قبل!.
تناغم الجسد والروح
*(ثم يتابع الكاتب في باب الحكمة قائلاً حين يحمل الجسد الروح تأخذ عجزه وحدوده وحين تحمل الروح الجسد يأخذ سرعتها ونفاذها):
وهذه قاعدة لمن لديهم فكرة في علوم الطاقة الحيوية: كلما خفّ الجسد خفّت حركة الروح فيه وتناغمت معه، والعكس صحيح. هنا يأتي دور النظام الغذائي الذي نتبعه والذي يحافظ على صحة الجسد وخلوه من الأمراض كالابتعاد عن الأشياء السامة التي ليست طبيعية من الطبيعة، وعدم اتباع الرياضة مثلاً بأنواعها الجسدية والروحية من تمارين وصيام وما إلى ذلك.
قوة الحب في تحرر الروح
*(ننتقل إلى: وأنت حررتك روحك بقوة الحب، لا شيء أقوى من الحب، لأن الذي خلقك خلقك بحب ولأنك حين تحب تكون أقرب من روحك، ويكون من تحبه روحك العشقية التي تمنح روحك الذاتية الصبر على أغلال الجسد ونوازع الفناء):
هنا عودة إلى الحب وفلسفة كاملة ومفصّلة وعميقة له، الحب هذا الذي عجز كل العلم والإنسان والفلسفة، بما جاؤوا به من تفسير أوحد أو صحيح مطلق له. نجد الروائي يتكلم عنه بكل تفنيد وثقة داخلاً في المسبب والسبب والنتيجة، بكل جمال الفلسفة الإلهية الحقيقية، ليكون الحب أقوى من كل شيء، مُعيداً السبب للخالق عز وجل "الفلسفة الإلهية الجمالية"، حينما خلقك خلقك بحب، فالله هنا هو الحب، أو الحب هو أحد تجليات الخالق بالقوة المغلّفة بالحب، والحب جوهر الذات الإلهية، وهذا ينفي عنه أي جانب لكره أو لغضب وما شابه، فالله أحب خلقه فخلقهم، وليس كما أفهمونا من قبل أنّه خلقنا ليبتلينا ويعذبنا فلا أحد يخلق على الأرض إلا بذنب! الله حسب الرواية لا يعذّب خلقه بل يحبّه ولهذا خلقه. كما وضّح السبيل لكيفيّة الوصول للحب ألا وهي تحرير الروح، فمن يحررها من قيود الفكر الخاطئ يستشعر الحب، ويغدو الحبّ بيده سلاحاً قوياً يهزم كل شيء، لأنّه بالأصل أقوى من أي شيء، كيف لا وهو سلاح الخالق لهدم القباحة والعذاب؟! وكل هذا بالإيمان طبعاً، فإنّك يا أخي الإنسان إن لم تؤمن بالحب لن تصل إليه ولن تتعرفه أو تعرفه أصلاً، كذلك من يحبّ يغدو أقرب من روحه، يبتعد عن عالمه الماديّ وقيوده وقيود الجسد، ويتحرر منهما، فيغدو شفيفاً ملامساً روحه، تحلّ به بكلّ خفّة الطيور ورقّتها، هذا إن اعتبرنا أن الروح أقرب للضوء من دون ثقل، لكن بتأثير ناعم جداً نحس به ولا نلمسه، نرى انعكاسه لكن لا نقدر أن نمسكه.
كنه الروح
-وهنا أيضاً مفهوم واستطراد آخر لمعرفة "كنه الروح"، وننتقل مع الراوي لمعرفة حقيقة المعشوق ومَن تحبّه أنت؟
فمن تحبّه يكون هو "روحك العشقية"! هنا فصل الكاتب ودخل إلى أبعاد الذات وصولاً إلى كنه الروح، فالذي تعشقه الروح هو الذي يمنح روحك الذاتية روحها العشقية، هذا إن اعتبرنا الذات مراتب، فالحب الروحي يأخذ بالذات إلى العليّة إلى مراتب أو مصاف الروح وذلك كله بمقام الروح عبر بوابة أو باب الحب. والحب هو من يعلي مقام النفس إلى ذات، والذات إلى روح لتلامس روح المعشوق الآخر، عبر تحرّر الجسد وشفافية الروح، وهنا المعشوق قد يكون كائن وقد يكون الله، لكن هناك أدوات وطرق.
متى يتروحن الجسد ومتى تتجسّم الروح؟
*(عجيبٌ أمر الروح والجسد كالظل والجسم لا يتلامسان رغم أنهما متلازمان، لكن حين يشفّ الجسم يتروحن، وحين تتحرر الروح تتجسّم):
كثيراً ما حاول المفسرون والشعراء ورجال الدين الوصول لتعريف واحد موحد في الروح، لم يقدروا، وهنا يأتي الكاتب بعبارة واحدة قائلاً: عجيب أمر الروح والجسد، كالظل والجسم! نعم هنا قطع الكلام على كل التفسيرات السابقة والتأويلات اللاحقة للمفكّرين من كل أصناف المعرفة والفكر والثقافة، فالجسم والروح متلازمان كالظل والجسم، لكنهما كالضوء والقنديل لا يتلامسان رغم تلازمهما.
-لكن لكل قاعدة شواذ واستثناء ودائماً هناك فسحة وقدرة للتغيير، مهما ثبتت من قوانين للطبيعة فالإنسان بعقله وإرادته ونظامه كائنٌ جبّار، خالقٌ كخالقه ولو بشيء أصغر،وقدرة أقلّ، محدودة، لكنه أقدر من القدر، فتبارك الانسان هو خالق ومبدل ومغيِّر، "وتبارك الله أحسن الخالقين"، وقد تتغيّر الأقدار أحياناً بكلمة أو دعوة أو شفاعة أو عمل صغير أو كبير من مخلوق..
*(حين يشفّ الجسم يتروحن، وحين تتحرّر الروح تتجسّم):
كيف للروح أن تتحرّر بالجسم، هذا الماديّ الثقيل؟ نعم تهبط به وتتغلغله بكوامنه وقد صعد إليها بعد أن شفّ واقترب منها الجسم يتصاعد وهي تهبط، يدنوان ليغدوا في نقطة ما في تلامس، هذان المتلازمان المنفصلان في حين ثقل الجسد بذنوبه أو عاداته الخاطئة، وبعدت عنه الروح، لأنّه يثقلها فيغمرها أو يطمرها في وحله، أو هربت منه خوفاً وهلعاً لبشاعة صنائعه، لتحافظ على جوهرها أو تنجو بحالها.
وإلى مقالٍ آخر بمتابعة تحليل المشهد في إكمال، وترك مساحة أكبر لتأخذ حقّها المعاني والقيم، إذ أننا أمام كاتب يجمع حكمة التاريخ والعالم، فكل جملة عنده مصطلح كتاب، وكل مشهد رواية جغرافيا وتاريخ أو زمن أوعصور، وكل حكمة تُثقَل بميزان الذهب.. هذا لمن أراد أن يفهم ويعلم وحجّة على مَن لا يريد أن يفهم ويعلم، بل يعند وينكد..وكفانا بالمعلّم جمال العلم وجوهرة الأدب.
وبالمختصر الشديد نجيب على سؤال العنوان، هل رَوْحَنَ المعلّم الدكتور مازن الشريف، الأدب؟ نقول بعد هذا العرض المُقتَطع لبعض كتاباته: بكل تأكيد المعلّم عَقْلَنَ الأدب وروحن الكتابة وأعاد النبض الاصيل وصقل الإبداع فكان إضافة رائعة…
والبقيّة تتبع …