المشهد الثاني: السبعة الكبار
تلاميذ المعلم السبعة كانوا أشبه بالأسطورة.
ولولا آثارهم القوية التي امتدت لآلاف السنين، لحسب الناس أنه لم يكن لهم وجود.
أتوا كهف التنين لرؤى رأوها، ولقصص سبقت ومقادير ساقت.
كان أولهم وصولا شاب نحيف، اسمه شاو تشي، استيقظ فجأة من كابوس مرعب، فقد رأى آلاف الثعابين السوداء تحيط به وقدماه تغوصان في بركة من الوحل، ورغم أنه والده كان ملكا، فلم يكن له سلطان على عالم الرؤى والأحلام، ولم يكن لجيشه العظيم قدرة على مواجهة ثعابين الكوابيس، وصرخ بفزع حتى رأى نورا وتنينا ينفث نارا زرقاء، ويد معلم تمتد له من خلف الخيف وعليها مسبحة وفيها هالة ضوء، وحين فتح عينيه وجد نفسه في كهف التنين، والمعلم يمسك يده ويبتسم، رأى المسبحة التي كانت في كابوسه، ونظر لقدميه وكانتا ملطختين بالوحل.
ولتسع سنين اختفى شاو تشي، ليرجع أسطورة تردد صداها في الآفاق، أسطورة معلم طاقة الحياة، والطبيب الأبرع والمقاتل الأقوى في المروج الصفراء وما خلف جبال الذئب الأسود، وليحكم مملكة أبيه ويلقب بملك عدالة السماء أو الملك التنين.
أما ثاني تلاميذه فهو فوجا، النمر الذهبي، كان طفلا يجري خلف ضحكات الجنيات في قصصه أمه في كوخ بعيد في الغابة الرمادية، ابن صياد وامرأة تتقن فن الحكايات، وكانت أمه تحدثه عن الجن كثيرا، وعن ممالك بعيدة، وعن جنية عشقت بشريا واختارت أن تكون زوجة لإنسي فقير، وضحت بتاج الإمارة.
ذات يوم كان يلعب وقد بلغ العاشرة من عمره، فرأى طائرا عجيبا بديع الألوان، نزل الأرض واهتز فتحول إلى طفلة صغيرة جميلة، أخذت تجري أمامه فمضى يتبعها، فجأة انقض عليه ذئب أحمر جلده مكسو بشيء كالمسامير، ورجعت الطفلة وتحولت أمام عينيه الفزعتين إلى عجوز شمطاء تتكلم بكلام لم يفهم، كأنه كلام الجن في حكايات أمه، ثم فتح الذئب جناحين مخفيين في ظهره، وطار به وبجانبه العجوز السوداء تضحك ضحكا مرعبا.
وفجأة لمع ضوء وظهر تنين أبيض كبير يركبه رجل يجلس متربعا وفوق رأسه هالة من نور، وظهرت من حوله آلاف التنانين الملونة، وقبل أن تتحرك أجفان المرأة السوداء أو يتمكن الذئب من الالتفات، تحولا إلى رماد، وأمسكت به كف الرجل المهيب لتضعه على ظهر التنين، وبعد إماءة قصيرة كان يشرب كوب ماء بيد مرتجفة، وشاب مفتول العضلات يبتسم له بحنان ويكلمه بلغة لم يفهمها، وحين شرب الماء سرت فيه قشعريرة عجيبة، وصار في سمعه نقاء، وفي قلبه صفاء، وفهم ما يقول الشاب إد يربت على كتفه هامسا: أنت بخير يا نمر، وأهلا بك عند المعلم.
ستكون ملحمة النمر بعد سنوات قليلة، الذي سيقتل من الجن الأسود ما لم يقتله بشري، انتقاما لأمه التي عرف أنها بطلت الحكايات التي قصتها عليه صغيرا، وليكون واحدا من السبعة الكبار، ورثة السر الأعظم، والعلم القديم.
أما ثالث التلاميذ فهو لونغ، تنين أرض العناقيد، حيث تكثر أشجار العنب، ويكثر السكارى، وتمتلأ الحانات، ويعيش الناس في تلك المدينة المجاورة للبحر على السمك، وحولهم قرى كثيرة يربون الغنم ويزرعون حقولا شاسعة فيها من كل الثمرات، ولكنهم مالوا لزراعة العنب وشرب الخمر بعد أن رست سفينة تحمل جماعة من أبناء أرض التوت، القادمين من خلف الأمواج الكبيرة الغادرة، فأفسدوا طباع الناس البسطاء، البحارة والمزارعين، ونشروا الخمور والفجور، وأتوا بشجرة عنب تحولت بعد عقود إلى غابة.
هنالك ولد لمزارع بسيط، كان يحب الأرض، وكان يخشى البحر ويقطن في قرية متاخمة لجبل غربي المدينة.
ولكنه كان مولعا بالنجوم، ينظر إليها كل ليلة، ثم حملت امرأته التي اختارها من قريباته، وليلة ولادة مولوده البكر رأى نجما غريبا ينزل ويقترب منه بوهج مخيف، ثم يختفي بسرعة لم ير لها مثيلا راسما في السماء المظلمة شيئا شبيها بالتنين.
فسمى ابنه التنين، لونغ، والذي سيكون في كهف المعلم بعد سبعة عشر عاما من ولادته، ليلة قرر أن يجرب الخمر، ودخل الخمارة، فوجد رجلا عجوزا يجلس في الركن، بهدوء وصمت، وحين سعى بعض السكارى للتحرش به، بعد أن كلموه طويلا ولم يجبهم، حدث انفجار في الخمارة لم يعرف الناس بعده شيئا عنه، ولا بقي أحد من المخمورين حيا ليروي القصة ويفسر السبب.
ولكنهم حين فتشوا في الجثث المتفحمة وجدوا سوارا عليه رسم تنين، بكى والد لونغ كثيرا لأن ابنه تلاشى في الحريق ولم يبق منه إلا السوار، وفجأة لمع ضوء في جدار ظهر منه رجل وبجواره شاب، نظر الأب المفزوع ثم ابتسم وخرج هاتفا، وبقي سكرانا من تلك اللحظة، وهو لم يذق الخمر يوما.
وستكون ملحمة التنين لونغ مختلفة، لأنه سيطهر الأرض من الرجس، وسيختفي ألف عام، ويظهر من جديد.
الرابع اسمه تشو، الفنان، الدي لم يتكلم خمسة عشر عاما.
ولد في جزيرة الأقحوان، بعيدا خلف البحر التاسع. وكان والده عازفا على الناي، يقضي الليالي ينوح، ولم يعرف أمه، قيل أنها ماتت، وقال آخرون أنها هربت مع أحدهم، ولكن الحقيقة لم يكن يعرفها إلا الناي ووالده.
فـ”تشو “كان ابنا لأغنية، غناها القمر ليلة اكتماله بدرا، فانسابت كجدول من الضوء ونزلت الأرض ومشت على صفحة الماء حورية، وكان شاب يقف قرب النهر، رآها فخطفت قلبه وسلبت لبه وسحرت عينيه، نظرت إليه وابتسمت بحذر، فاقترب منها واقتربت منه، لمسها فتحولت إلى خيط دخان أبيض واختفت.
انتظرها يوما، ثم يومين، ثم مكث شهرا ينتظر، حتى اكتمل البدر مجددا وأخذ في الغناء، فانسابت وأسرعت إليه، كلمها فلم تفهم وناداها فلم تسمع، لمسها فاخترقت يده يدها، فغنى من فرط اشتياقه فانسكبت عذوبة صوته في مسامع قلبها، فأجابته الغناء بالغناء، وكانت لا تسمع إلا الأغاني، ولا تصلها الكلمات إلى في زوارق اللحن وسفن الموسيقى.
قيل تزوجها وكان القمر شاهدا، وقيل اصطادها بطلاسم سحرة البئر الوردي، الذين لا تراهم أعين البشر، ويهمسون في أحلام المجانين والعباقرة.
وقيل أنها من نسيج خياله، وسخر منه أهل قريته عاما كاملا حتى سمعوا بكاء مولود، وهرعوا ليجدوا الرضيع المعجزة وعلى شعره خصلات من الضوء، وسموه الفن أو تشي، لأنه ثمرة للفن الراقي، فن جمع بين القمر والأرض، في حب يشبه الخرافة، وعشق لصيق بالملحمة، وشغف متاخم للأسطورة، وفي نفس الليلة اختفت في الظلام، وتركت له نايا حزينا يعزف عليه، وقال بعضهم أنها تحولت إلى ناي لرفضها الانصياع لأوامر القمر الذي طلب عودتها، أو من غيرة الشمس منها التي أحرقتها فبقي الناي قطعة من روحها الذائبة في وهج المحبة.
ولعل بقية تلاميذ المعلم كانوا يسخرون من قصة تشو ويرونها من رواياته التي يبدع في تأليفها، ومسرحياته الغنائية التي يبرع في كتابتها وتمثيلها مع إخوته بعد التدريب الشاق، لكن المعلم كان يعرف، ويبتسم في صمت، فقد عثر عليه غارقا في النهر ليلة اكتمال القمر، وكان لم ينطق بحرف ولم يعلمه أبوه الغناء، وكان لا يسمع الكلمات التي يقولها الناس، حتى سمع صوت الحورية تغسل شعرها بالضوء على صفحة الماء، تبعها وعرفها، غنت فغنى لها، لمع شعره وأضاء وكان شبيها بشعرها الوضاء، ابتسمت لابنها فجرى على الماء ليضم أمه، وحين ضمها اختفت كخيط ضوء وغرق في الماء، لتنتشله كف رجل في يده ضوء أشد من وهج الشمس وأنور من نور القمر.
تشو نشر الفن في أرض التعساء، وصادق المجانين، وعزف على آلات الموسيقى وغنى فوق قمم الجبال، وركب التنين الوردي وصعد إلى القمر حيث التقى أمه، ومضى أبعد من ذلك، واختفى، أو هكذا قيل.
الخامس والسادس والسابع أتوا معا في ليلة واحدة ممطرة، طفلان وبنت.
وقصصهم بقيت غامضة، وأسماؤهم أيضا، حتى عثر رجل على حجر قديم فيه صورة ثلاثة محاربين، شابان قويان وفتاة طويلة الشعر لها ضفيرة، تحمل سيفا على ظهرها.
ين، يانغ، ونغ.
أما المحاربان فأصبحا رمز الإيجابي والسلبي، ولهما شعار شهير في معابد فنون الدفاع، وأما الفتاة فمعنى اسمها الربيع الدائم، وصارت ملحمة في فنون الدفاع.
أنجبت زوجة ملك ثلاثة أطفال توائم: ولدين وبنت.
سمت الأول ين، والثاني يانغ، حتى يتكاملا تكامل الليل والنهار والشمس والقمر والنار والماء.
وسمت البنت ونغ تشون، أو الربيع الدائم، لتكون زهرة مونعة على الدوام.
وكانت في أرض ينتشر فيها الجراد، وتتفشى المجاعات، اسمها ملح، وفي فيافي الملح وكثبانها، وأراضيها الجرداء، نبعت عين ماء، اجتمع حولها التائهون والراحلون في الفيافي، وجاء تجار وفتاك وصعاليك، وأقوام من ملل شتى، وتشكلت مملكة، وصار فيها خير كثير اختفى خلفه شر كبير، وانتشر السحر وكثر السحرة.
مملكة الماء في صحراء الملح كانت مملكة عظيمة لها جيش ونظام، أسسها أول من عثر على تلك العين، عراف اتبع حلما رآه.
حفيده الخامس كان يسمى يوتشان، وكان رجلا عادلا حكيما، وتزوج ابنة عراف كجده، وورثت الزوجة من حكمة أبيها ورؤاه التي تتحقق، حتى رأت ذات ليلة أن الصحراء تبتلع المملكة، ورأت تنانين سوداء مرعبة، سطع فوقها نور عظيم، فوق النور رأت غيمة، فوق الغيمة رأت تنينا أبيض كبيرا، فوق التنين رأت رجلا بملابس بيضاء يحمل صولجانا مشعا، وبجواره ظهر ولدان وبنت.
قالت لزوجها ليلة تزوجها عن رؤياها التي رأتها قبل أعوام، وأنها ستنجب ثلاثة توائم، وأن لهم قدرا يجب تحقيقه، وأن التنين الأبيض سيأتي لأخذهم، وابتسم الملك ابتسامة من لم يصدق، لكن زوجته لم تكن تعلم أنه رأى نفس الحلم، وأكثر.
في عمر السابعة اختفى الأميران والأميرة، كل من في المملكة كان حزينا ومرتعبا، إلا الملك والملكة.
أما السحرة في الركن الخفي، فقد كانوا في هلع.
كل هذا كان بعد الطوفان الأول، وقبل الطوفان الأخير، بزمن طويل.