بعيدا، في مملكة السواد، كان الكاهن يقسم لملكه كل مرة أنه سيتمكن من فتح البوابات والسيطرة على قوة التنين الأسود، ومنحها للملك ليصبح من الخالدين.
وكان يتخذ القرابين البشرية من الأجساد الطرية، لعل قوى الظلام تتخذه ممثلا لها في عالم البشر، ويطلب من كاهن مملكته المزيد من الضحايا، ولم يكن الكاهن يأتيه إلا بما يوهمه أنه دم بشري تعشقه الأطياف السوداء، إلا أن شيئا لم يكن صحيحا لأن الأطياف لم تتحد مع جسمه بل كانت تنفر منه كلما قام بجلسات الاستحضار التي يردد فيها طلاسم بلغة سجن الظلام القديم.
ورغم ذلك فالشر الذي كان في قلبه كان كافيا لإرضاء كبير الأبالسة نفسه، فحلت في روحه الظلمات تفتك منه بشريته شيئا فشيئا وتحوله إلى شيطان.
لقد أصبح ظالما باغيا طاغيا غشوما، وسكنت أيامه الأحزان والنزوات، ولياليه الكوابيس والصرخات، فكان يصرخ كل ليلة، في قصره الذي بناه فوق تل العظام.
وكان سريره الملكي كبيرا من خشب الزان، مزينا بالفضة والذهب وعليه الحرير والدمقس، لكنه لم يكن ينام إلا قليلا ليستيقظ مفزوعا، فقد كانت الأطياف السوداء تهاجم بقية البشري فيه، لتحوله إلى وحش من صنعها.
والحقيقة أن ذلك الشاب الرقيق الملامح الذي يميل للخنوثة بصوته الرقيق وأنامله الشفافة وعينيه اللامعتين، كان شيطانا من البداية، إلا أن جبنه كان يمنعه من التمظهر، حتى وجد رفاق السوء من أبناء الوزراء والأثرياء، وجلسات الخمر، وبعض الأفاعي المؤنثة تفح سمها في أذنيه في مجالس الضحك الهيستيري والسكر والنشوة التي كان يقوم بها ابن كبير التجار خفية، حينها بدأت ملامحه تتضح، واتخذ الخطوات المناسبة لتحقيق حلمه الذي رآه مرة: أن يكون ملكا متوجا بقوى الظلام.
مؤامرات دقيقة جعلت منه ملكا بعد أن كان الملك سيؤول إلى أخيه الأكبر، إلا أنه، وفي ليلة باردة معتمة نحسة، قتل أباه الملك العادل، وكل إخوته، ثم قتل كل من عارضه، وقتل ضميره أو ما ظنه ضميرا، إذ لا ضمير له من البداية.
إن كرسي الحكم الذي جلس عليه فوق بركة من الدم لن يتركه حتى يقضي عليه، بعد أن يقضي على كل شيء من حوله.
قال الكاهن لأقرب تلاميذه وأمين سره، وهو يرسله لصيد المزيد من الأيائل وإخفاء ما علمه كيف وأين يخفيه وإلى أين يوصله.
مات الملك، صرخ الحاجب.
مات الملك، رددت أرجاء القصر.
مات الملك.
ابتسمت الأرض وفرحت السماء، ولم يكن له إلا طريق واحد يسلكه إلى نهاية كان يعلم أنها ستأتي لا محالة، إنما أراد أن يصيب من الحياة فوق ما يستطيع، لعله يشبع جوع نفسه الذي لم يكن يشبعه شيء.
وصل الخبر إلى الكاهن، فألقى السكين من يده وهو يقول: تبا، سئمت ذبح الايائل واختفاء الفتيات الصغيرات، سئمت هذا الدور.
لقد هددني بمكر، حين هجم مع جنوده على معبدي، وكنت مستشار والده الروحي، ملك عادل أنجب من يقتله، حي يخرج منه ميت، وطيب يولد من نسله شيطان، يا لها من لعنة مرعبة.
بعد يومين بدأت المراسم، واجتمعت الحاشية، ورقص الناس في الشوارع فرحا بتحرر ملكهم من سجن التراب وتحوله إلى روح عظيمة، وكانوا في الحقيقة يرقصون فرحا بالخلاص منه.
حمل بعض الجنود جسد الملك الميت ليحرقوه كما جرت العادة في تلك الأرض الموغلة في الوحشة، أرض الظل الساكن.
وضعوه في المحرقة وكان من حوله الوزراء وقادة الجيش، وابنه الأمير السكران، الذي لم يكن يترك الخمرة ولا كانت تتركه، هروبا مما كان يفعل والده، ومما كانت تقص عليه والدته التي خطفها من أهلها في قرى الغابات البعيدة.
وما أن لمست النار الجثة حتى انفجرت المحرقة وخرجت نار سوداء، ثم خرج دخان اسود كثيف انتشر عاليا، وخرج منه تنين أسود أعور العين، وانقض على الجميع.
وضع يده أمام عينيه، واهتز جسمه وانتفض كأنما يستل سيفا.
مدت يدها إليه، حبيبي ما بك.
امسك أناملها الصغيرة، كغريق يمسك يد منقذه.
كان يتوسد فخذها، كموجة تتوسد رمال الشاطئ.
وكان شعرها الاسود ينساب كخيول الليل على كتفيها، والشجرة الحمراء تتراقص أغصانها الوارفة الظل، والطيور تنشد لحنا رائعا.
عيناها كوكبان من النور الاسود، وقلبه سمكة ترقص خارج الماء وداخله، تقفز بسعادة في بحار عشقها.
لقد كان الكابوس نفسه يا حبيبتي، لكن الصور فيه أوضح، الملك، والكاهن والأيل، والتنين الأسود، وأنا وأنت، وسيف يضيء بيدي.
ثم صمت.
وفجأة رأى الطيف نفسه، شبح في شكل الملك الذي يسكن كوابيسه، جسد من الدخان الأسود من خلفه تنانين سوداء وثعابين كبيرة.
رأى ذلك يقظة هذه المرة، ثم تلاشى المشهد ليظهر خلفه رجل يقف بجوار تنين أبيض عظيم، وسمع صوت الرجل المضيء يقول له: الجبل الوردي، مغارة السر، سيف لونغ العظيم.
تحركت أذنه اليسرى وتأهبت روحه للقتال، بمجرد أن سمع أصوات خيل، قفز من مكانه برشاقة أذهلت حبيبته، رأى زعيم عشيرة الذئب، يلبس جلد ذئب.
ابتسم له.
“كي تونغ” أنت هنا إذا.
لقد وصل اثنان من رجال والدك يبحثان عنك.
بحث رجالي عنك فلم يجدوك، وها أنت مجددا حيث حسبتك، تحت الشجرة الحمراء المقدسة.
ثم أضاف مبتسما بصوت لا يخلو من عطف أبوي: أعلم أنك تنجذب إليها كثيرا، فهي الشجرة التي جلس تحتها المعلم الكبير وتلاميذه ذات مرة كما تقول الملحمة.
أعتذر يا سيدي، أتوه حين أصل دياركم وأجدني عند الشجرة.
اهتز جسمه بزهو وأمسك لحيته الطويلة السوداء التي علاها بعض الشيب: يبدو أن سحر ابنتي أشد من سحر الكهنة.
ضحك كما تضحك الذئاب، وابتسم من معه من المحاربين، كان صوته الأجش يصف رجلا شديد المراس، وكانت نظراته الثاقبة تخفي الكثير.
نهض كي تونغ وأصدر صوتا كأصوات الصقور، سمعوا صهيل فرس، ثم ارتجت الأرض لسرعة أقدامه التي تنصب كصخر متلاطم من فوق جرف كبير.
راقبته بعينيها الجميلتين وهو يغادر، وشعره الطويل ينسدل على كتفيه.
كان والدها ينظر لقدر لا يمكن منعه، لقد ورث عن جده العاشر حجرا عليه نقش قيل أن المعلم لونغ التنين نقشه بيده منذ ألوف السنين، قبل أن ينتقل أحد أحفاده إلى أرض مايسان ويؤسس عشيرة الذئب.
وكان على الحجر بعض كلمات باقية وأخرى محتها الأعوام، أو محاها كاتبها عمدا، تتحدث عن ملحمة قادمة وحرب لا مفر منها.
كل محاولات الكهنة والعرافين والحكماء لإكمال الكلمات التي محيت حروفها بائت بالفشل، لكن النبوءة تحققت حين أقبل ذلك الشاب وتخاصم مع عشرين من أبناء عشيرة الذئب وهزمهم، وحين أشهر الزعيم سيفه عليه أبصر القلادة التي رآها في منامه، وعليها رمز التنين، وبمجرد أن سمع اسمه أسقط السيف بذهول، ونادى على ابنته دمعة الغيم، لتلتقي قدرها.
لم تكن تعلم أن رابطة دم قديمة تجمعهما، وأنهما من سلالة لونغ محارب التنين الأحمر، صاحب الملاحم، تلميذ المعلم الكبير.
ولم تكن تعرف أنها ستخوض معه تلك الحرب الكبيرة لهزيمة التنين الأسود وأطيافه السفلية، لكنها كانت تعلم منذ الوهلة الأولى التي رأته فيها أن قدرا عظيما يجمعهما، وأنها ستقف معه أيا كانت الظروف، لأجل ذلك تدربت كما يتدرب عتاة الرجال، وهزمت أمهر قادة أبيها بسرعتها الكبيرة وإتقانها لفن شجرة الخيزران الذي تميل فيه كالشجرة وتلف بسرعة وتضرب بخفة كأنها الريح تضرب الحجارة.
وكانت تتمتع بذكاء كبير، وبطاقة نافذة تشكل بها أضخم الأجساد ويطير لضربة منها أقوى الرجال مفتولي العضلات، فالقوة الناعمة مع الإتقان الحركي وفتح بوابا الطاقة أشد من قوة العضلات الظاهرية.
كي تونغ ملحمة من ملاحم مدرسة المعلم الكبير، لقد كان تلميذا عزيزا على قلب المعلم، لأنه علمه بعد آلاف الأعوام من تلاميذه السبعة الأوائل، وكان قد رآه في كتاب قدر تلميذه لونغ، وحدثه عنه، مبتسما: سيكون من نسلك بطل كبير يا بطل، لذلك جلبت لك من جبل التنانين سيفا آخر، سيكون لك سيفان تقاتل بهما، وحين ترى الإشارة عليك إخفاء أحدهما في الجبل، في تلك المغارة، ليجده حفيدك، وستكون مراقبا له من حيث تراه ولا يراك، وتساعده في اللحظة المناسبة، تهيئه لألتقيه، تعلمه حتى يأتي دوري لتعليمه، ثم يكون دور التنين الكبير.
ثم يكون للقدير أن يفعل به ما يشاء ويعلمه ما يريد، وهكذا هي حلقات الأدوار، فنحن نجهز المخلوق لإنجاز قدره ونعده للقاء خالقه.
كانت المرة الأولى التي التقى فيها لونغ بحفيده كي تونغ في حانة من حانات أرض الصندل، تلك المدن المسكونة بالأشباح المليئة بالسكارى، بقية ما ترك الملك الذي أراد أن يحكم بقوة الظلام، ورغم مضي ألف عام على نهايته فإن شره بقي مستمرا.
وفي تلك الحانة جاء كي تونغ باحثا عن قدره، ودخل تلك المدن المعتمة مطاردا لصوت كان يدعوه في حلمه، وبشعره الطويل وجسده المفتول والسيف الذي على كتفه كان يبعث المهابة والخوف في كل من يراه، وكان المارة يتجنبونه خوفا.
عجب من الشر المستشري والفقر المدقع وفهم أن ظالما ما كان خلف ذلك.
دخل الخمارة والصوت يناديه، وفي طاولة من الطاولات وجد ورقة عليها كلمة واحدة: لونغ.
بسرعة احترقت الورقة وأضاءت، وفر المخمورون، وأمام ناظريه فتحت بوابة، وخلفها رأى المعلم التنين لونغ العظيم، جده العاشر، وفي لحظة تغير كل شيء.
لعام كامل مكث في مدن الظلام حتى هزم كل اللصوص وقطاع الطرق وسعى خلف حاكم تلك الأرض يحطم جيشه بمفرده، بسيف لونغ الذي يفتح بوابة التنين الأحمر ويحرر قواه وتنانينه التي لا قبل لجيوش البشر بها، حتى وضع رجله على صدره والحاكم ينظر إليه برعب وفزع، ثم غرس سيفه في كرسيه ولم يقتله، لقد أمره أن يصحح ما أفسده ومنحه فرصة أخيرة.
لونغ علمه أن لا يقتل إلا إن واجه ما لا يمكن الدفاع ضده إلا بالقتل.
لقد تدرب لثلاثة أعوام في عالم التنين الأحمر، وصعد الجبل واستل السيف.
كان مقاتلا لا يشق له غبار، ولكنه كان رحيما لا يحب إراقة قطر من دم.
وكان لا بد أن يأتي اليوم الذي يكون فيه جاهزا لإتمام قدره، ليهزم التنين الأسود، ويكون ثاني بشري يهزمه، بعد المعلم الكبير تايبنغ، وتلاميذه السبعة الكبار، حين دخلوا عالم الظلام، وهزموا أطياف الشر التسعة، وفقأ المعلم عين التنين بسيف النور الأزرق، وتركه أعور في سجن سفلي، وهو يعلم أن تحرره سيكون، مرتين، واحدة يهزمه فيها حفيد لونغ، والثانية يعيث فيها تنين السواد في عالم البشر، حين يتجه العالم كله لنهاية لا مناص منها.